الاثنين، 19 مايو 2025

"ميثاق النساء" وصوت زينب: الكرامة، قراءة من مكامن الوجع

 

لقد استأذنت زينب

لم أشعر أن نصّا أصابني في مكان وجعي كما فعلت رواية:" ميثاق النساء" لحنين الصايغ.  كتبت الرواية وجعي، ووجع نساء كثيرات عرفتهن، هو وجع وجودي قبل أي شيء آخر.

نتعلم نحن النساء من تجاربنا أن كل الأوجاع التي تتصل بالأذى والخذلان والحرمان أصلها وجع وجودي يتعلق بما تربينا عليه من أفكار عن حقوقنا وواجباتنا، بل يتعلق بتصوراتنا عن أنفسنا، مكامن قوتنا وضعفنا، رشدنا وقصورنا. القاسي في الأمر هو أن يكون هذا الوجع مصدره ما يُتصوّر أنه أوامر الله عز وجل وشرعه.

تقول أمل، بطلة الرواية، عن أبيها: " فقد كان حنونا قبل أن تصيبه حمّى الدين"، وهي تتحدّث هنا عن دين الدروز وفقا للتفسير الضال لها من قبل المشايخ كما تقول في موضع آخر من الرواية.

ذكّرني كلام أمل عن أبيها، ثم قصّتها مع زوجها ومعاشرته إيّاها دون مراعاة لحالة الاكتئاب القاسية التي كانت تتملكها، بحديث حدثتني إياه صديقتي زينب.

قالت زينب: لقد انتهك فهمي الخاطئ للدين علاقتي بجسدي، حين كنت أسمح لزوجي أن يعاشرني رغم معاملته المهينة لي. الأمر معقد يا صفية، لقد علمتني تجربتي القاسية مع زوجي مفهوما للكرامة لم أكن أدركه، كان غائبا في لجّة فهمي المشوّه لواجب طاعة الزوج.

استطردت زينب: لم تكن إهانته لي بكلمات صريحة، كانت تلك الإهانة المبطنة، والتقليل من الاحترام، في مواقف يومية متكررة، يسري كل ذلك كالسمّ الزعاف في هدوء وبلا ضجيج، كان يؤذيني، وكنت لا أعرف كيف أصف هذا الأذى، لا له فقط، بل لنفسي.

كنت أسكت مرغمة، وأدخل في دوّامة إنكار تتهم فهمي وحساسيتي المفرطة، وعندما كان يطلبني للمعاشرة، كنت ألبّيه تديّنا.

 كنت أظن يا صفيّة أنه مهما كانت مشاعري مجروحة فليس من حقي أن أمنعه جسدي، وأن هذا الامتناع يعدّ كبيرة. كنت على شفا الهاوية يا صفية، يوما بعد يوم كنت أشعر أنّي أقدم له جسدي ليغتصبه قهرا، كنت أشعر بأني أشارك في انتهاك نفسي، حتى حين كنت أنوي بهذه المعاشرة أن أعف نفسي.

 وفي خلوتي بربي، كنت أشكو له عجزي عن الاستمرار، وضياعي بين ما أؤمن به وما أعيشه من ضرر.

كان الأمر مركّبا، ابتزاز عاطفي مقيت، وتقلب في التعامل محروم من الصدق، وانتهاك دائم لجسدي باسم الدين. كان الوقت عصرا عندما قرأت ما كتبته يا صفية في تغريدتك المثبتة عن أن المعاشرة الجسدية إنما تجب في حال أن تكون العلاقة بين الزوجين علاقة كرامة لا إهانة، لم يكن هذا نص عبارتك قلتِ شيئا عن أن كل حق يقابله واجب[1]، لقد نوّرت كلماتك قلبي وأنقذت إيماني، أنا لا ألقي كلامي جزافا، كنت على شفير هاوية الكفر – والعياذ بالله –.

كانت هذه هي كلمات زينب، كما نقلتها لي، وأذنت لي في نقلها إليكم. رأيت فيها تجربة مركبة، تجسّد كيف يمكن للفهم الجافي للنصوص أن يصنع اغترابا وجوديا لدينا كنساء.

عندما قرأت رواية:" ميثاق النساء" تذكرت حديثنا أنا وزينب، وجدت أن الرواية تتقاطع تماما مع الوجع الوجودي الذي عصف بزينب، وأعلم أنه عصف بغيرها.

 

مكان النظر

عندما نتحدث كنساء مسلمات عن أن الحديث عن حقوق الزوج في بعض الخطابات الدينية المعاصرة ينتهك كرامة الزوجة، يُظن بنا السوء، وتكون تهمة الهوى وفساد الدين حاضرة، ولكأننا نتمرد على الدين لا على الظلم.

ولا حلّ لذلك إلا أن يحاول المنتسبون للعلم الشرعي من الرجال والنساء أيضا أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم لسماع وجع التجربة.

 الأمر ليس صراعا، وإنما " إيمان"، نعم " إيمان"، التشريع مداره الرحمة، وغايته حياة طيبة لا حرج فيها، والكشف عن هذه المعاني في حياة الناس لا يكون متصلا بحالات الوئام والانسجام والتناغم، وإنما في تعقيدات العلاقات، في حالات المشاحّة لا المكارمة؛ لذلك فإني أرى أن الأمر لا يستقيم فقها إذا جُعل المرجع عند الخلاف هو الحد الأدنى الذي يشبه الضرورة التي تبقي الجسد المثخن على حافة الحياة.

النظر إلى فقه المرأة من هذا المكان، مكان الوجع الحقوقي لا البراح، أو بتعبير آخر، مكان يُتصور فيه الضرر تصورا مكتملًا لا مبتسرًا ولا ناقصًا، مكان تُحترم فيه تجربة النساء في الوجع؛ وذلك لإعادة النظر في حقوق المرأة في الفقه الإسلامي، وتحقيق مقاصد الشرع الضرورية والحاجية والتحسينية في فقه المرأة.

وجع النساء الذي تتحدث عنه رواية:" ميثاق النساء" يساعد في تصوّر الضرر المتصل بالأحكام الفقهية التي تسلّط الرجل على اختيارات المرأة، وتسلّط الزوج خاصة على كرامة المرأة المتصلة بحقها في التعليم والعمل والتنقل، وقبل ذلك حقها في أن يُحترم جسدها فلا يمس               إلا برضاها.

ناقشت الرواية موضوعات مهمة، أحسنت هناء جابر عرضها في مراجعتها للرواية، وأرى أن كل هذه الموضوعات تصب في حاجتنا إلى صياغة جديدة لمفهوم الكرامة الإنسانية وألا نفرّق بين كرامة المرأة وكرامة الرجل.

 

ورطة مشتركة

ما أعجبني في رواية:" ميثاق النساء" ووجدته منصفا وناضجا هو أن السياق الاجتماعي للعنف غير المرئي الذي يمارسه الأب والزوج كان حاضرا في وعي أمل وقلبها وتعاملها، لم تكن ناقمة على أبيها ولا على زوجها، كانت تنظر إلى الأمر كورطة مشتركة وقعوا فيها جميعا، وإن كان الضرر الأعظم كان من نصيبها، ولذلك فعلاقة أمل بأبيها كانت تصبح أكثر رحمة يوما بعد يوم، وعلاقتها بزوجها لم يكن فيها حقد ولا كراهية، لقد كانت واعية تماما إلى أن تصرفاتهما لم تكن تنطلق من إرادة أذيتها، وإنما من تصوراتهما المرتبكة عن كرامة المرأة وعن ما يحفظ تماسك الأسرة.

لقد نجت أمل في الرواية، وكان لنجاتها ضريبة تتصل بأن تعطى حضانة ابنتها رحمة لأبيها.

أنا هنا لا أجد موقفها أنانيا، لكنه موقف ضرورة ضمن السياق الخاص للرواية، ومع ذلك لقد كانت أمل نموذجا ممتازا في تربيتها لابنتها، كانت طريقتها حكيمة ومبصرة في بناء العلاقة معها وفي صياغة وعي رحمة ورعاية قلبها.

 

نجاة

        صوت زينب وأمل هو صوت كل امرأة أنهكها الخلط بين الدين والرأي في الدين. واضطراب الاتساق بين مفهوم الكرامة ومفهوم الطاعة.

إن جزءا مهما من العنف غير المرئي والمرئي أيضا تصنعه المفاهيم الخاطئة عن حقوق المرأة، وتحرير المفاهيم لا يحمي النساء وحدهن، بل يحمي الرجل الصالح من ظلم نفسه وأهله-كما حدث مع والد أمل وزوجها في الرواية- ويحمي المرأة من ظلم نفسها، ومن تفتت هويتها، ويحميها أيضا من ظلم الرجل، سواء قصد ذلك أم لم يقصده.

       

 

 



[1] حقوق المرأة في الإسلام نماذج من مراجعات عصرية: https://mudawala.blogspot.com/2020/03/1.html

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق