خلافا لبعض الصديقات لم تكن الأمومة حلما لي
يوما؛ إذ كنت أفكر في ثقل المسؤولية المرتبطة بالأمومة فيصدّني ذلك عن الإنصات إلى
أحاسيسي الداخلية. وفي لحظة تنوير، توكّلت على الله، وقررت أن أنفتح على تجربة الأمومة،
وكنت أدعو الله أن يهبني بنتا؛ لأني تصوّرت صعوبة أن أكون أمّا لكائن لم أمر
بتجربة شعورية تشبه تجربته من حيث طبيعة الجسد، والثقافة. واستجاب الله دعائي
ورزقني آمنة.
ولدت آمنة، واستقبلها أبوها مبتهجا، واحتضنتها
أمي ، ثم قالت لي : تريدين احتضانها، فقلت لها إني متعبة من الولادة، المهم أنها
بخير- لم أكن أعلم حينها أن الخروج من ضيق الرحم إلى عالم مختلف، قد يجعل الطفل
بحاجة إلى حضن أمه-، كنت أشعر أن مسؤوليتي الحالية هي ولادتها، وقد أنجزت ذلك ،
وهذا كاف ، وهي في أيد أمينة.
إنسانيتي لا أمومتي
كنت أريد وقتا مستقطعا بعيدا عنها قبل أن تصبح
رفقتنا لا مناص منها. ولأشهر خمسة لم يكن إحساسي الغالب حيالها سوى إحساس
المسؤولية عن كائن كنت من تسبب في وجوده في هذا العالم . قلت لصديقة لي -وهي أم
حنون-: الشعور الغالب عليّ حيال آمنة هو شعور المسؤولية الإنسانية والدينية، حتى
حنوّي عليها هو حنوّ ينبثق من إنسانيتي لا من أمومتي؛ إذ لم أميّز مشاعر الأمومة
بعد، لا أعرف كيف هي. كنت أشعر أن رحمتي لها ، هي رحمة عامّة كما سأرحم أي طفل ،
لم أكن أشعر برحمة الأمومة الخاصّة- التي أكرمني الله بها بعد الشهر الخامس
تقريبا- . قالت لي: هذا غريب جدا ، كيف لا تحسين بمشاعر الأمومة؟
نسختي الخاصة من الأمومة
لم أخبر أحدا بعد ذلك عن مشاعري، كنت أشعر
بالذنب، والخزي معا، وأقول لنفسي: لم تكتمل الأمومة لديك بعد، لكنك تفعلين ما
بوسعك للاهتمام بطفلتك الصغيرة.
ثم أغاثتني ذاكرتي بما قرأته للإمام العز بن عبد
السلام من أن الله يثيب الوالدين على مشاعر الرحمة، و التلهف على الطفل ، وعلى
الإحسان إليه[1].
ولكأن ما أكرم الله به الأم من ثواب على واجب الرعاية فيه مراعاة لحال من لا تجد
في قلبها إحساس الأمومة الخاص، فلعلّ الوعد بالثواب هو رسالة ربّانية لاستشعار
القرب من الله ونحن نرعى صغارنا، فيعيننا ذلك على غربة مشاعرنا.
وبعد عشر سنوات من ولادة آمنة ، وفي ورشة عن
رحلة الأمومة ( سبتمبر/ 2023م) ، عرفت أمهات خضن تجربة شعورية قريبة من تجربتي.
كنت قد وصلت لاستنتاج ألهمتني إياه تجربتي، أن الأمومة تجربة ذاتية من حيث إن لكل
أم طريقتها التربوية الخاصّة، وليس لأحد أن يحاكم أمّا على طريقتها في التربية،
لكن لم أتوقّع أن ذاتية التجربة تمتد إلى
المشاعر، وأن مشاعري ليست نشازا ، وأن التجربة الشعورية للأمهات مختلفة، لقد ربتت
هذه المعلومة على روحي، وداوت شعورا خفيا بالاغتراب.
أشباح الأمومة
تأخرت
أعواما قبل أن أقرأ كتاب إيمان مرسال : " كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها
"، لقد أخافني حديث قرّاء الكتاب عن عدم نمطيته من حيث إنه يلقي الضوء على
الجوانب المظلمة المتعلقة بالأمومة، كنت أريد أن أقرأ نصوصا يلتئم بها إحساسي
بالاغتراب، كنت عقلا مؤمنة برسالتي كأم، لكني في أعماقي أشعر أن الأمومة تبتلعني،
وأني أود الهرب ليس خوفا من المسؤولية فحسب، لكن رفضا لإحساس أني محاصرة في دور
الأم، كنت أستيقظ يوميا مثقلة بهذا الشعور الذي أبوح به الآن لأول مرة ، فلمّا
قرأت عن كتاب إيمان مرسال عزمت على عدم قراءته، ولم أفعل إلا بعد وقتٍ من تصالحي
مع مشاعري كأم .
قرأت
العام الماضي كتاب إيمان مرسال ، فوجدت تجربة ذاتية جديرة بالتوثيق؛ لأنها تسهم في
تغيير الصورة النمطية عن الأمومة، وهذا التغيير مهم لتواصل منصف ورحيم مع الأمهات.
هل كان خوفي من قراءة الكتاب أيامها في محله ؟ أظن ذلك. لكن ربما الأمر لا يكون
كذلك مع غيري ، فالتفاعل مع النصوص ذاتي هو الآخر.
ثم
وجدت نصّا يقارب تجربتي الشعورية لكنه أشد وطأة، ولكأن النصوص تزورنا في الوقت
الذي نكون فيه مستعدّين لاستقبالها ، النص من رواية :"رغبة قوية للعيش":
" قالت: أخيرا رزقت بولد، الأمنية التي طالما راودتني، ومع ذلك كنت أشعر
بالحزن. عندما تعرّفنا أنا وماركو إلى بعض كنّا نقوم بالعمل نفسه، ونتمتّع
بالمكانة ذاتها. ثم بدأ مشواري مع الحمل ، ووجدت نفسي خارج الملعب. كنت أظن أنني
سأكون سعيدة حين أصبح أمّا، وأن البقاء في البيت مع طفلي سيكون شيئا جميلا. ولكن
تبيّن أن الأمر لم يكن على هذا النحو. سعدت بالوقت الذي قضيته معه، ولكن في نهاية
الأمر أصبحت عصبية. في تلك الفترة كنت أشعر بأني لم أعد موجودة. تعاستي جعلتني
أشعر بالذنب، لم أعد أعرف ما الذي يجري داخل رأسي . كنت أعتبر نفسي أمّا متشائمة.
فقدت الإحساس بما حولي، وهذا كان يزيد تعاستي. كنت أنوء تحت ثقل الشعور بالذنب
وعدم الإحساس بالأمان."[2].
أم وأكثر
الصورة
النمطية للأم ، تجعلها ممتلئة بدور الأمومة، دون اعتراف بنسبية هذا الامتلاء. وهذه
الصورة متصلة أصالة بطبيعة الحياة الاجتماعية قديما، والتي تلازم المرأة فيها
المنزل غالبا. ما يغيب عن هذه الصورة أن حياة المرأة كانت مزدحمة بأعباء التربية، مع
العمل في المنزل، مع علاقات وثيقة مع الجارات والأرحام، وكل ذلك في سياق يحاصر حظ
المرأة في سعة التعلم، وتنوع المشاركة العملية المجتمعية.
لقد كانت الأم قديما تمارس أدوارا أخرى ترافق
دورها كأم، فهي الزوجة، والجارة، والقريبة ضمن الأسرة الممتدة، وهذه الأدوار تساعد
الأم على التوازن وفقا للسياق الاجتماعي آنذاك .
إذن
لم تكن الأمومة هي الدور الوحيد، وكانت ممارسة المرأة لبقية الأدوار- في ذلك
السياق- تساعدها على أن تؤدي دورها كأم دون إحساس بأنها محاصرة في دور واحد.
وفي
عصرنا الحالي ، ومع تمكين المرأة من بقية حقوقها الإنسانية والشرعية، اتسعت
حاجاتها النفسية تبعا للسياق الحضاري الجديد، ومن ذلك حاجتها للارتقاء العلمي
والثقافي والمهني في بيئة تدعم أمومتها.
فالحديث عن أن دور الأم يغني عن بقية الأدوار هو
حديث يغفل عن واقع الإنسان، وطبيعته النفسية، وأنه كائن متعدد الأدوار اجتماعيا، وأن
هذه الأدوار تتنوع باختلاف السياق الحضاري.
يقول
بعضهم :التربية هي واجب الأم شرعا؛ لذلك فلا بد لها من الاستغناء بالأمومة عن أي
دور آخر. وقولهم هذا لا يُسلّم لهم؛ لأن
ذلك لا يلزم منه تغييبها عن بقية الأدوار ، فضلا عن كون التربية عند الشافعية فرض
كفاية على الأبوين معا[3]،
فهي مسؤوليتهما المشتركة.
احترام
الحاجات النفسية للأم، ومساعدتها على تلبيتها، يرفد أمومتها، وينضج علاقتها بنفسها وبطفلها،
فهو عامل ثراء لا نقصان.
ليس
من عملي في هذا المقال مناقشة صعوبات تعدد الأدوار بالنسبة للأم في الجانب المهني
تحديدا، وأن عمل المرأة يكون عامل استقرار إن وُفّرت لها تنظيميا أسباب الموازنة
بين واجبات الأمومة -لا سيما في السنوات
السبع الأولى- وبين تطورها المهني. لكن لا بد من التنويه، على أن غياب التشريعات
والإجراءات التنظيمية التي تساعد المرأة على الموازنة بين دورها كأم وبين حقها في
العمل خارج المنزل، لا يحجب حقها في أن توازن أولوياتها بما لا يضيّعها نفسيّا أو
ماديّا، سواء كانت زوجة أو مطلّقة أو أرملة.
أطفالنا ليسوا روبوتات
اضطرت
صديقة لي إلى أن تقلل وقت زيارتها لأهلها لسنوات إلى الحد الأدنى حماية لأحد
طفليها من مقارنته الدائمة بأخيه الذي حباه الله بطبع هادئ واهتمامات رائقة.
واضطرت أخرى إلى أن تصطدم ببعض أهلها لتوقف انتقاداتهم لطريقتها في تربية طفلها؛
لأنها لا توافق رؤيتهم.
تدرك
الأم الواعية أن التربية ليس لها نموذج إرشادي تفصيلي موحّد، وأن أسلوبها التربوي
ينبغي أن يتنوع بحسب طبيعة طفلها نفسية ومزاجا وإدراكا، لكن بعض الإشكال هو أنها
تصطدم غالبا بانتقادات خارجية تحاكم تربيتها لنمط تربوي جامد، وهذا يتطلب منها
شجاعة، وحكمة، ووضوحًا تامّا في الرؤية يعطي الأولوية لحق طفلها في أن يُعامل بما
يلائم طبيعته.
رحلتنا التربوية كأمهات – وكآباء أيضا- هي رحلة
خاصة، وأول ما يفسدها إملاءات ذاكرتنا التربوية النمطية، ثم الإملاءات الخارجية،
وحمايتنا من أن نقع في فخ النمط التربوي الجامد تكون بالمراجعة المستمرة لقيمنا
التربوية، والتثقيف المتجدد، وخلق بيئة صحية لمداولة خبراتنا التربوية ولو كانت
هذه البيئة تتمثل في إنسان واحد.
شغف معرفي
جادلتني ابنتي مرة في قرار ما، كانت مجادلتها
بارعة استفزت في داخلي خوفي من عدم الإنصاف، لكن أنقذتني فكرة أن التربية هي عملية
اجتهادية، وأني ما دمت مقتنعة بترجيحي فلا بد لها أن تحترم قناعتي هذه. شرحت
لابنتي هذه القاعدة، وكسبت بمناقشتها لذة معرفية، وإضافة منهجية مهمة لطريقة تفكير
ابنتي.
لم يقل لي أحد من قبل إن تجربة التربية ستغذّي
بين حين وحين شغفي المعرفي. مساحات التفكير في اتخاذ القرارات التربوية هي مساحات
واسعة ومتجددة، تتطلب من الأم – والأب – ملاحظة دائمة لشخصية الطفل، ونفسيته،
وطريقة تفكيره، وتفاعله مع محيطه الإنساني والمادي، ثم محاولة أن تقترب من أفضل
طريقة للتعامل مع الطفل لمساعدته على النمو الآمن نفسيا.
تغذية الشغف المعرفي لا يتصل فحسب بحاجة الأم
إلى القراءة والاستشارة، لكن تمتد إلى عملية التفكير نفسها، والترجيح بين الطرق
المتعددة للوصول لأقرب وسيلة تلائم مبتغاها.
الصورة النمطية عن الأمومة تغيب عنها أن التربية
تحتاج إلى رشد عقلي ونفسي، وأن هذا الرشد يجدد عقل الأم وقلبها أيضا.
مساحة ضرورية للخطأ
روّجت الدراما العربية لسنوات لصورة نمطية للأم الجيدة
بأنها الأم التي لا تخطئ، إشكالية هذه الصورة رغم أننا تجاوزناها فكريا في أن
كثيرا منّا لا زال حبيسا لها ثقافيا، وأنا منهم.
أعلم
عقلا أن الخطأ التربوي هو عامل ثراء لشخصية الطفل؛ لأنه يحميه من وهم أن الخطأ يصم
صاحبه بما يتصل بذلك من اضطرابات روحية ونفسية؛ ولأنه فرصة لتعلّم الطفل مهارات
جديدة تتعلق بضبط النفس، والتعامل مع المواقف الصعبة؛ ولأنه فرصة مهمة لتواصل عميق
مع الطفل ، يتعلم معه الطفل عمليا فضيلة أن يعتذر المخطئ مهما بلغت منزلته، وينشأ
في ظلاله تقارب نفسي بينه وبين والديه عندما يشهد محاولاتهما للإصلاح، وفوق ذلك
كلّه فإن الدماغ عضو مرن، تمحو الحسنة عنده السيئة إن ثبت المربي على أن يكون غالب
تصرّفه مع طفله "جيدا"[4].
ورغم كل ذلك، لا زلت أتحرّج لو أخطأت في حق طفلتي أمام الآخرين، فضلا عن حرجي إن
أخطأت طفلتي في تصرّف رغم إدراكي أنها في طور التعلم والتربية وليس من حق أحد
محاكمتي أو وصمها.
تحررت
الدراما العربية من تقديم الأم في صورة مثالية ساذجة، وركّزت على التفاعل الناضج
بين الأم وأبنائها، نجد ذلك في "البحث عن علا"، وفي: " بينّا ميعاد" ، وفي :"
كامل العدد"، وفي :" ليه لأ" الموسم الأول. وأظن أن أعمالا كهذه
ستساعد على بناء ثقافة جديدة تحترم مساحات الخطأ في العلاقة الوالدية.
رحلة
الأمومة رحلة ذاتية من جهة، وتفاعلية من جهة ليس فقط مع الأبناء لكن مع الزوج
والعائلة ، وهذه الرحلة يظلمها التنميط، بل إن ازدهارها في اختلافها واحترام
رحابتها.
*نشرت المقالة في منصة المنور الثقافية / رمضان
1445هـ الموافق 14 مارس 2024م
[1]
قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، العز بن عبد
السلام، تحقيق : د. نزيه كمال حمّاد و د. عثمان جمعة ضميرية، الطبعة الثانية، دار
القلم ، دمشق 2007م. مج1/ ص37.
[2]
رغبة قويّة في العيش، فابيو فولو، ترجمة: نزار
آغري، نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق ، 2021م.
[3]
حاشية إعانة الطالبين على فتح المعين، السيد
البكري، دار الفكر، بيروت 1993م. مج1/ ص
33.
[4] تربية خالية من
الدراما، د. دانيال جي. سيجيل ود. تينا باين بريسون، ترجمة مكتبة جرير، السعودية
2023م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق