الأحد، 5 ديسمبر 2021

قراءة في كتاب : كيف تصلح قلبا مكسورا ؟ *

 

                                                                                       

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ."


تعاطف مستحق :

قبل سنوات طويلة تقدّم شاب لخطبة صديقة لي، ولم تطل الخطبة إلا أسابيع قليلة ثم تم عقد القران ليتسنى للطرفين التعرّف على بعضهما قبل أن يضمهما بيت واحد وفقا للثقافة السائدة، لقد أحبت صديقتي (خطيبها/ زوجها ) حبا عاصفا ، قالت لي: لقد صادف هواه قلبا خاليا فتمكنا.

 لكن الأمر لم يتم، و بعد ستة أشهر تقريبا تراجع ( الخطيب/ الزوج ) عن إتمام الزواج وترك صديقتي تعاني ألما قاسيا، وتدنيا في تقدير الذات، وحزنا قويا .

كنا في مقتبل العمر ، وكنت أواجه هذا الوجع من خلال صديقتي لأول مرة، ما أنا ممتنة له أن الله سبحانه هدى قلبي إلى التعاطف الذي لم يخالطه سأم أو لوم، وأني كنت أستمع إلى صديقتي وأنا أشعر أن ألمها جدير بالاحترام ، لكن هذا لم يكن رد فعل كل من حولها ، لقد لامها آخرون لأنها استغرقت في الحزن والإحباط ولأن الأمر كما قالوا لا يستحق كل هذا الألم، والوحشة، والانكسار.

تجاوزت صديقتي محنتها، وخرجت منها – بفضل الله – أقوى، وأكثر إيمانا بنفسها، وحماها هذا الألم من أن تكسرها علاقة أخرى.

كيف تجاوزت صديقتي هذه المرحلة ؟ ما أتذكره الآن أنها أعطت لنفسها الحق في الحزن، لم تلم نفسها، ولم تسمح للوم الآخرين أن ينال منها، أخذت وقتها في التعافي ، وفي تعلّم كيف تصوغ نظرتها العادلة لذاتها، ولم تغرق في تحليلات خاطئة للموقف، كل ذلك ساعدها، مع التعاطف الذي تستحقه من بعض المقربين.

تذكرت قصة صديقتي وأنا أقرأ الأمثلة التي تناولها الكتاب، ولأن الأمثلة جاءت من ثقافة مختلفة فقد آثرت أن أبدأ حديثي عن الكتاب بمثال من صميم ثقافتنا الاجتماعية.

 

لا تنس أبدا أن المعاناة ذاتية :

          يحدثنا مؤلف كتاب : كيف تصلح قلبا مكسورا ؟ الدكتور: غاري وينش [1]عن الانتقائية في ثقافة التعاطف، فهي توجه غالبا إلى الأحزان المتصلة بالأحداث الكبيرة في حياة الناس، كالموت والطلاق، وبالتالي يعاني كثيرون معاناة قاسية ولا يجدون من يتعاطف معهم بعمق لأن أحزانهم -وفقا لثقافة التعاطف السائدة – لا تستحق أن تحدث ألما كبيرا.

          ويحاول الكتاب أن ينبه إلى قصور هذه النظرة وعدم نضجها بل وأثرها في إبطاء الشفاء، ويؤكد على أن مقياس المعاناة ليس طبيعة الحدث بل مقدار ما يحدثه من ألم في نفس صاحبه، والعجز عن احترام ذلك مؤذ و قاس .

" مستوى لا يحتمل " :

           تعمل المعاناة الناتجة عن آلام الانفصال العاطفي بنظام معقد، وتأثيرها يتجاوز عواطفنا وتفكيرنا إلى أجسادنا، وأدمغتنا ، ووظائفنا، وعلاقاتنا بشكل قد لا نتوقعه .

          يحدثنا الكتاب عن قيام  إيثان كروس- أستاذ علم النفس- وزملائه في جامعة ميتشغان بزيارات استقصائية لعدد ممن مروا بحالات انفصال عاطفي مؤلم . تم إخضاع أولئك المتطوعين لجهاز FMRI- وهو جهاز يحوي ماسحا ضوئيا يكشف المناطق الدماغية التي يتدفق فيها الدم بشكل أكبر ما يعني نشاطا أكبر – ثم طلب منهم التحديق في صورة الشخص الذي كان سببا في  التهوين من أمر الانفصال ، فيما يقوم الماسح الضوئي بجمع صور لأدمغتهم ، وإظهار شريحة واحدة في كل مرة .

          ثم خضع بعدها المتطوعون إلى جهاز تحليل الخلايا الحسية العصبية ، وهو جهاز ينقل الحرارة عبر جلد الساعد، ويستخدم لمعرفة المستويات المرتفعة للحرارة المزعجة في ذراع المتطوع في فترة لا تزيد عن سبع ثوان. في البداية سببت تلك الحرارة انزعاجا خفيفا للمتطوعين، لكنها ارتفعت بعد ذلك حتى وصلت إلى مستويات مؤلمة 8/ 10 حيث تشير الدرجة الأخيرة إلى " مستوى لا يحتمل" .

          وعندما قام العلماء بمقارنة صور الدماغ القبلية بالبعدية لتلك التجربة، وجدوا أن نشاط المناطق الدماغية للمتطوع عند التعرّض للتهوين من معاناة الانفصال العاطفي  يتطابق مع التعرّض للألم الجسدي المرتبط بارتفاع درجة حرارة الساعد .

          يقول غاري وينش : تخيّل أنك تقوم بعملك، أو دراستك، أو بعض مسؤولياتك حينما يقترب الألم الذي تعانيه من مستويات :" لا تحتمل " ، وإحساسك هذا ليس لبضع ثوان كما في التجربة بل هو يسكنك لوقت يمتد لأشهر أو أكثر .

          هل مر أحد المقربين منك بتجربة آلمته وشوشته، ولمته على عدم قدرته على التماسك لأن الحدث لا يستحق كل هذا الألم ؟ إذن ربما أنت بحاجة ان تراجع طريقة تفكيرك لعلها تقودك إلى التعاطف المستحق.

          بل هل مررت بتجربة مؤلمة لم يحترم ألمك فيها بعض من تحبهم ولكأن ألمك وهم ؟ هل لمت نفسك على حزنك ؟ إذن ربما تحتاج إلى أن تتعاطف مع نفسك من جديد، وتدرك أنه ليس من حق أحد التقليل من معاناة آخر ، وأن المعاناة مدارها إحساس المتألم لا ماهية الحدث المؤلم .

تتبع الكتروني :

          يتحدث الكتاب عن أن الانفصال العاطفي المؤلم قد يحدث عند الطرف المتألم أعراضا انسحابية تشبه أعراض مدمني المخدرات، لأن العلاقة كانت تشكل له أمانا ومؤانسة تملأ وجدانه، وبعد الانفصال يصبح قلبه خاويا ، فيسعى عقله اللاواعي  إلى استعادة المشاعر التي كانت سكنا له يتتبع أخبار الطرف الآخر في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مستمر، وهي تتيح للمراقب نوعا من " الاتصال الزائف" وشكلا من أشكال استعادة الذكريات التي تشتت آلام الانفصال . ورغم صعوبة التخلي عن هذا السلوك إلا أننا يجب أن ندرك أن ممارسته يعمّق الجرح و لا يشفيه و لا يساعده على الشفاء .

          يحكي لنا غاري وينش عن ديف الذي انفصلت عنه حبيبته في المرحلة الجامعية، وظل طوال أحد عشر عاما يتابعها متخفيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي كلما أصيب بإحباط من زوجته .

          لا يرى ديف أن سلوكه مضر، ويصر على أنه لا يشعر بأي حزن دفين، وعندما يناقشه غاري في أسباب سلوكه ويغوص معه في عمق مشاعره ، يقول ديف: " في الواقع، لم يكن هناك وخز ضمير – بسبب ردة فعله الغاضبة على هجرانها له -أو شعور بالتوتر ، لكن كانت هناك لحظة حنين واشتياق". فيقول له غاري وينش : جرحك العاطفي لم يندمل بعد ، ليس جرحا كبيرا ، أو أنه تصعب معالجته لكن مراقبتك لها الكترونيا سيجعله جرحا متجددا .أنت أيضا تستغل صديقة الجامعة كمنفذ للهروب العاطفي بدلا من توجيه جهدك نحو حل مشكلاتك مع زوجتك .كما أنك بشكل لا واع تحمي نفسك بهذا التتبع واستثارة الحنين من الإصابة بانكسار جديد من علاقتك الحالية.

          يقول غاري وينش: عندما تهم " فجأة" أو " مصادفة " بالتفكير في الشريك السابق وتقرر البحث عنه أو عنها ، فإن ذلك عادة ما يكون رد فعل على وضع يحدث في الحاضر. والطريقة المثمرة لمعالجة مشكلاتك الآنية هي التشاور مع الشريك / الزوج الحالي بدلا من توجيه تلك المشاعر إلى شخصيات من الماضي .

 

آليات الشفاء :

          الشفاء رحلة تتطلب الشجاعة والحزم ، وكذلك المعرفة والوعي في الوقت ذاته . وفي الكتاب بعض تفصيل مع الأمثلة لآليات الشفاء من المعاناة العاطفية . هذه الآليات هي :

-       فهم الطريقة التي يوجهنا فيها عقلنا المتأثر بالألم نحو خيارات خاطئة . وفي كتاب : ( الشعور الجيد ) للدكتور : ديفيد دي بيرنز منهج علاجي مكثف يتضمن شرح التشوهات الإدراكية التي تضلل عقولنا.

-       مكافحة الميل إلى الإدمان للإبقاء على أثر لأولئك الذين فقدناهم، سواء عن طريق ذكرياتهم أو مقتنياتهم أو التتبع الالكتروني لهم .

-       إعادة بناء احترامنا لذاتنا من خلال ممارسة العطف الذاتي . و في كتاب : ( لا بطعم الفلامنكو) للدكتور محمد طه نموذج علاجي الهدف منه فهم صعوبات النفس ومساعدتها على النضج والنمو النفسي . ومعالجته لموضوع العطف الذاتي مفصّلة وعملية .

-       تبني فكرة التأمل الذهني – التركيز في النشاطات الحاضرة- لمكافحة الأفكار الوسواسية الناتجة عن الفقدان .

-       معرفة الفراغات التي خلفتها حالة الانكسار في حياتنا واتخاذ الخطوات اللازمة لملئها .

-       إعادة التواصل مع ذواتنا، والتعرّف عليها من جديد، لأن ألم الفقدان يقودنا إلى النظر إلى أنفسنا من خلال قصصنا المنتهية ، وهذا يصعب علينا رحلة التواصل المتوازن مع النفس .

إنصاف :

          يؤكد الكتاب على أن التعاطف حق لكل متألم، وأن المعاناة مدارها إحساس صاحبها لا نوع الحدث الذي تسبب فيها ، لكنه أيضا ينبه المتألمين إلى فكرة لعلها تحتاج مزيد تأمل وهي عدم إثقال كاهل الذين يقدمون لنا الدعم ، وعلينا تقبل أن الدعم قد يتفاوت بحسب أحوالهم النفسية، وضغوطات حياتهم ، ولا بد لنا أن نستصحب فكرة أنهم يحبوننا، ونستمد منها الأمان والقوة لنخوض رحلتنا الخاصة . رحلتك هي مسؤوليتك ، وتحتاج إلى مساعدة نفسك ومساعدة الآخرين وتراعي اختلاف نفسياتهم، وقدرتهم على الاستيعاب.

آلامنا غير المرئية  :

          أراد الدكتور غاري وينش أن يسلط الضوء على الآلام غير المرئية، والتي لا تنال حظها المستحق من التعاطف، وقدّم تفاصيل جديرة بالتوقف عندها عند كلامه عن رحلة الشفاء . وأظن أنه نجح في غايته من الكتاب.

نشرت الكتاب باللغة العربية صفحة سبعة عام 1442هـ/ 2021م بترجمة الأستاذ متعب الشمري، والكتاب يقع في 138 صفحة من القطع المتوسط، ولغته سهلة رغم بعض العثرات المتعلقة بصياغة المعاني، والتدقيق اللغوي.

                                      *نشرت في مجلة الجوبة / العدد 73/ خريف 1443هـ (2021م).

 

 

 

 

 

         

         

 

 

 

 

         

         

 

         

         

 



[1] طبيب نفسي ومؤلف ومتحدّث أمريكي بارز ، ترجمت مؤلفاته إلى 23 لغة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق