الأحد، 25 يوليو 2021

الاتساق بين القيم والسلوك قراءة مقاصدية.

 

                          

(قد يغفر الله ذنوبنا لكن جهازنا العصبي لايغفرها لنا) قرأت هذه العبارة من قديم في مقالة للأستاذ عبد الوهاب مطاوع -رحمه الله-  لعلها في كتاب : ( صديقي لا تأكل نفسك ) ووجدتني أتأمل الفلسفة التي تبنّاها الإسلام في قضية الاتساق بين قيم الإنسان وسلوكه فخلصت إلى أن هذه الفلسفة تقوم على قواعد خمس :

القاعدة الأولى : 

إن تحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتكميلية هي أساس التشريع المتصل بالتحريم أو ما يقاربه من مكروهات أو مباحات قد تصير حراما باعتبار المقصد أو المآل . وعليه فإن قيم المسلم المتعلقة بالذنوب التي تؤرق ضميره هي قيم تحمي مصالحه ومصالح الآخرين المعنوية والمادية .

 

القاعدة الثانية : 

لم يجعل الإسلام الذنوب كلها في مرتبة واحدة بل قسمها إلى كبائر وصغائر. والأقرب عندي هو  ما قرره بعض العلماء من أن الكبائر هي ما مست الضرورات والصغائر هي ما دون ذلك وفي فقه الشافعية تأصيل جميل ينفي وصف الكبيرة عما عمّت به البلوى لعسر تجنبه إذ أن الشأن في الكبيرة عدم يسر تقحمها . وهو تأصيل يحتاح مزيد تحرير وفهم لضوابطه .

و أجد أن فقه الإسلام في عد الصغائر مما يكفّر بالصلوات ، وحثه على أن يتبع المسلم السيئة الحسنة لتمحها ، وتقرير أن حسن الخلق من المكفرات فضلا عن العبادات الظاهرة ، كل ذلك  فيه تأكيد على أن حياة الضمير تكون بحثه صاحبه على تجنب الشر كما تكون كذلك في إعانته على تجاوز ما يقع فيه من أخطاء .

قال أحد الصالحين : مثل أثر الذنب في القلب  كمثل بقعة وقعت في الثوب إن اقتصرت في التنظيف على محل البقعة  نظف الثوب وكذا هو أثر الاستغفار والتوبة والإقبال على الله بصالح العمل أما إذا سكبت الماء على الثوب كله امتدت البقعة إلى باقي الثوب وهكذا حال من يستغرقه لوم النفس ويقعد به عن فهم الشرع وحكمته ورحمته في عدم جلد الذات واحتقارها .

       ليس مسموحا لك كمسلم أن تتسربل باليأس من ذنوبك ، فاليأس هو نوع عُجب : يقول ابن عطاء الله السكندري: " من علامات الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند الزلل ".

      بل ليس مسموحا لك أن تحكم على نفسك بأنك إنسان سيء لا رجاء منه ، لأن الإسلام يجعل باب التوبة مفتوحا كل لحظة ، ويحدثك عن أن الإكثار من فعل الخير يمحو سيء العمل ، بل ويقول لك إنك تعد من أهل الخير والصلاح ما دام لديك ضمير حي يحب الخير ويسعى للتغيير . 

 

جعل الله الذنوب كلها محلا للتكفير إلا الشرك به ، والشرك هنا هو مظهر العناد والكبر لا البحث عن الحق .

 

القاعدة الثالثة :

  في فقه الضرورات : وحيث قرر الإسلام إن الحرام مرتبط بالإخلال بمصالح العباد، فقد يتغير الحكم الشرعي في حق الفرد والجماعة بتغير الأحوال والزمان وذلك لئلا يقضي الجزئي على الكلي  .وقد يخرج الأمر من التحريم إلى الحل وذلك لأمور عارضة تتعلق بتنزيل الحكم واقعا فلا ضرر ولا ضرار ، والأمر إذا ضاق اتسع ، والأمر هنا يحتاج في كثير من تطبيقاته إلى نظر دقيق من عالم معتبر وأثبته لاتصاله بموضوعنا .

 

القاعدة الرابعة : 

      سعة مساحة الظن في الشريعة وما اتصل بها من اتساع دائرة الاجتهادات في المسائل الفقهية مما يجعل غير المجتهد قادرا على تخير الأيسر الذي يلائم نفسيته ومصالحه ما دام لا يقع في صورة ممنوعة في المسائل المركبة وكذلك لايتخذ ذلك ذريعة لتضييع الحقوق .

 

القاعدة الخامسة :

في فقه الستر : أخطاؤك هي شأنك الخاص ، فليس لك أن تفضح نفسك أمام الآخرين ، أو تهتك ستر الله عليك ، كما أنك مأمور بالستر على أخطاء الآخرين حيث لا مفسدة ظاهرة - وتفصيل ذلك في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -  ،واحترام حق الستر هو خير معين للإنسان على الترقي ، وهو أحفظ للمودة ، مادام المرء صالح القصد والعمل . 

 

      إن فلسفة الإسلام في الاتساق بين القيم والسلوك هي فلسفة تحث على الترقي في الكمالات لكنها في ذات الوقت تجعل هذا الترقي مستوعبا لضعف الإنسان وعثراته فالقيم في النموذج المعرفي الإسلامي جاءت محققة لسلام الإنسان النفسي والاجتماعي وليست سيفا مصلتا على ضعفه البشري فلا حرج ولا عنت بل يعان الإنسان على ضعفه بتشريعات تعزز خيريته واحترامه لنفسه وتنهض به وتجعل الطريق إلى الله جوهره الرفق بالنفس والرفق بالناس .

وقد قالوا : سيروا إلى الله عرجا ومكاسير، فلا تجعل جهازك العصبي المرتبط بقيم لا تنتمي إلى دينك يحاكمك ويفسد عليك قلبك باليأس ، ويغبّش روحك بخطل الفهم، بل أقبل على الله بقلب مشرق راجيا رحمته وفضله شاكرا إياه على جمال ورقي دينه وتشريعه.

                                                               حرر في فجر الجمعة 4 ديسمبر 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق