هذه هي الحلقة الخامسة من الحلقات التي تتناول أسئلة الثابت والمتغير المرتبطة بالحجاب ، ولا بد للقارىء الكريم أن يعود إلى الأجزاء الخمسة الأولى على يمين المدونة – إرشيف المدونة ، ليتم له تقرير ما توصلت إليه في هذه المسألة .
وفي هذه الحلقة سأعيد بعض ما كتبته في الحلقة السابقة بأسلوب أسهل بناء على نقاش دار بيني وبين قارئة كريمة ..
تكلمت في المقالة السابقة عن أن الستر هو الوسيلة الأقرب للإعلان عن موقف أخلاقي يتبنى العفة سلوكا ، وذكرت أن هذه الوسيلة ملزمة بشرطين :
أحدهما: أن لا يؤدي الالتزام بهذه الوسيلة إلى ما يناقض المقصد الذي شرعت من أجله ، فإذا كان الستر وسيلة إلى الإيذاء والتحرش كما في بعض المجتمعات الأروبية المتطرفة فهنا لا معنى للالتزام بهذه الوسيلة إلا بالقدر الأدنى الذي يحافظ على الهوية ولا يناقض المقصد .
والثاني : هو أن لا يتعارض الالتزام بها مع حق المرأة في المشاركة في المجتمع بشكل لا عسر فيه أو يحمّلها وحدها مسؤولية الحفاظ على التعامل الأخلاقي العفيف ومن ثم وفقا لهذا الفهم لا يجب على المرأة ستر الأعضاء التي تحول بينها وبين التواصل السلس كالوجه والكفين وهما يحملان حواس هي منفذ مهم للتواصل مع العالم الخارجي .. وكذلك لا يجب عليها ستر جسدها كله حماية للرجل من الافتتان بها لأسباب منها أن الرجل مسؤول عن غض بصره والتعامل بعفة مع المرأة وهذه المسؤولية هي في أعلى رتب المسؤوليات بالنسبة لموضوع التعامل بين الجنسين بينما موضوع الستر هو واجب يقع ضمن أدنى رتب المسؤوليات في التعامل بين الجنسين ..
ذلك أن العلماء بعد الاستقراء والنظر في أحكام الشريعة وجدوا أنها تحقق ثلاث رتب من المصالح: المصالح الضرورية / والمصالح الحاجية/ والمصالح التحسينية .
أعلاها المصالح الضرورية وهي التي يمكن التعبير عنها بأنها الأساس الأهم للحياة، وبدونها لا تقوم الحياة أصلا.
والمصالح الحاجية مهمة لأجل أن تكون الحياة لا حرج فيها ولا مشقة بالغة.
والمصالح التحسينية تكون الحياة ميسرة مريحة متوازنة أو كما عبر بعض علماء أصول الفقه: ( على أحسن المناهج(.
وفي مسألتنا غض البصر يعد من مكملات الضروري يعني في رتبة أعلى / والستر عده العلماء من التحسيني / بمعنى أنه إن التزم الناس بأخلاقيات العفة من غض البصر والابتعاد عن المحرمات المتعلقة بالتلامس الجسدي والحفاظ على العفة الاخلاقية فهذا أمر يقترب من الضروري في حياتهم .. وأما التزامهم بهيئة معينة من اللباس فهذا يساعد على استقامة الحياة بشكل ميسر وهو أمر لا ضروري ولا حاجي بل تحسيني .. مع ملاحظة أمر مهم هنا وهو : أن كونه تحسينيا لا يعني أنه غير واجب شرعا. فالأحكام الواجبة شرعا قد تكون في رتبة الضروريات أو رتبة الحاجيات أو رتبة التحسينيات.
وفي ضوء الشرط الثاني نفهم تعدد أقوال العلماء فيما يجب على المرأة ستره أمام الأجانب ، ولقد بحثت طويلا في كلام العلماء ، وتوصلت إلى أن أقوالهم هي نتاج الفسحة الممتدة التي يدل عليها النص القرآني العظيم ( إلا ما ظهر منها) ، وارتباط هذه الفسحة بطبيعة المجتمع ، وطبيعة الحياة التي تعيشها المرأة ، فهي مأمورة بستر لا تنالها منه مشقة بالغة ، ويأتي هنا اجتهاد الفقيه في تقدير المشقة وحجمها .
والسؤال هنا : هل القول الذي نقله الإمام ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير من أن الشعر ليس عورة يستند إلى الفهم الذي قررته آنفا ؟
قد يكون ذلك ، لكن يظل هذا القول محفوفا بما يشكك في صحته، فليس لدينا تصريح بدليله ، وليس لدينا تعريف بقائله . فلو كان لدينا تصريح بدليله لعرضنا ذلك الدليل على العلماء المعتبرين فقها وفتوى فلو اعتمده بعضهم اعتمدناه .
ولو كان لدينا تعريف بقائله ، وكان من أهل الاجتهاد المعتبرين ، لاعتمدنا القول لأن القرآن الكريم علمنا أن أهل الذكر هم من يؤخذ قولهم .
لكن هذا القول ذكره الإمام ابن عاشور بصيغة يفهم منها أنه يقول بضعفه وعدم اعتماده ، ولم ينسب هذا القول لإمام معتبر.
وقد يقول قائل : فما فائدة ذكر هذا القول إذا كنت لا تقولين باعتماده ؟ أقول : إن هذا القول انتشر بين بعض الناس ، فكان لا بد من ذكر ما يحوط به من إشكالات . ومن جانب آخر فإننا في هذه المقالة نتداول أسئلة الثابت والمتغير وما يرتبط بها من الكلام على الأحكام القطعية والأحكام الظنية ، وإذا كانت الإشكالات التي تحوط بهذا القول تجعلني أتوقف في اعتماده، فإن إيراد الإمام المحقق ابن عاشور هذا القول، يجعلني أتوقف في القول بأن ستر الشعر هو حكم فقهي قطعي ،فالجزم بأن مراد الشارع قطعا هو كذا ينبغي أن يتثبت منه المرء تثبتا كاملا وإلا وقع في القول على الله بغير علم.
وعضّد عدم الاطمئنان إلى القول بقطعية وجوب ستر الشعر أن المالكية خصصوا بالعادة قال الإمام ابن عاشور: " وقد بلغ حد الاجتهاد بمالك أن خص من عموم قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن) البقرة: ٢٣٣ ذوات القدر اللائي لم تجر العادات بأنهن يرضعن أولادهن بأنفسهن فيجب على الآباء استئجار مراضع لأولادهن." اهـ
وفي مسألتنا هذه الاحتمال قائم – وإن كان ضعيفا- بأن الأمر بضرب الخمر على الجيوب، وما يقتضيه من وجوب لبس الخمار ، وهو غطاء الرأس، هذا الأمر قد يكون مرتبطا بعرف نساء العرب في تغطية رؤسهن، فيصح إجراء قاعدة الإباحة هنا إذا لم تترتب مفسدة معتبرة على كشف المرأة شعرها.
لقد ناقش الإمام ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية قضية مهمة تتعلق بالسياق الاجتماعي للنص الشرعي ، وتأمل كلامه يدلنا على ما قد يصلح دليلا على جواز كشف الشعر أمام الأجانب ، وكلامي هنا من باب المباحثة العلمية لا من باب تقرير حكم شرعي . وعلى هذا وجب التنبيه .
يقول الإمام ابن عاشور إن السياق الاجتماعي للنص الشرعي قد يكون خاصا لا عاما بشرطين : أحدهما أن لا يتعلق الحكم الشرعي الذي يفيده النص بمصلحة ضرورية أو حاجية. والشرط الثاني : أن لا يترتب على القول بالإباحة مفسدة معتبرة لأهلها .
أقول: فإذا تقرر أن الستر هو من باب التحسينيات ، وإذا انتفت المفسدة المتعلقة بكشف الشعر في مجتمع اعتادت نساؤه على كشف شعورهن ولم يعد ذلك دليلا على عدم الاحتشام ، فقد يقول قائل بجواز كشف المرأة شعرها بناء على هذه الطريقة في الاستدلال.
وقد ذكر الدكتور مراد هوفمان في كتابه:" الإسلام كبديل " كلاما يتعلق باختلاف العادات والحضارات وعلاقة ذلك بوجوب ستر المرأة لشعرها ، سأنقل قسما من كلامه ثم أعقّب عليه:
قال: " أرى حكمة بالغة في التعبير الحكيم : ( إلا ما ظهر منها) (سورة النور:31) لأنه يضع في الحسبان المقاييس المتباينة باختلاف العصور والحضارات ، في اعتبار ما هو زينة ثانوية من أعضاء الجسد ، وما هو غير ثانوي مثير للنزوات والغرائز الجنسية ، فيما عدا الثديين والعورة.
هذه الأعضاء الثانوية التي قد تثير الغرائز الجنسية ونحوها، يمكن أن يكون منها شعر المرأة، على أن ذلك ليس محتما أن يكون بالفعل في كل مجتمع وكل عصر مثيرا للنزوات والغرائز.
وبمعنى آخر فإن القرآن في فرضه تغطية شعر المرأة إنما يحتم ذلك في مواقع أو مظان الخطر الممكن حدوثه في حضارة معينة أو في مجتمعات بعينها، ونرى أن الفسحة المقصودة في التعبير االحكيم : ( إلا ما ظهر منها ) تسمح بحدوث تغيير لباس المرأة، بحيث يلائم التغير العصري في الدور الوظيفي للمرأة ، إذ أن ذلك التغير لازم وحتمي لتغير المجتمعات الإنسانية أخلاقيا واجتماعيا...
وترى أقلية من علماء الدين أن مغزى الآية الحادية والثلاثين من سورة النور: ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) إنما يتحقق أيضا بعدم تغطية شعر المرأة وذلك حيث لا يكون شعر المرأة مصدر إثارة جنسية للرجل ، كما هي الحال في شمال أوربا وشمال أمريكا بوجه عام... " اهـ
تحدّث الدكتور هوفمان في النص السابق عن رحابة التعبير القرآني: ( إلا ما ظهر منها) (النور:31) ، وقال إن هذا النص الكريم يفتح آفاقا لتأويله تختلف باختلاف الحضارات والمجتمعات، وكلام الدكتور هوفمان هنا لا إشكال فيه من حيث الجملة كما تبين لنا من أن العلماء نظروا إلى العادة ودورها في تحديد الزينة الظاهرة ، لكن الإشكال يأتي في تقديري من وجهين:
أحدهما: ربطه بين إبداء الشعر وقضية الفتنة ، وهذا الربط مما لا يصح إناطة الحكم به وذلك لعسر ضبطه، وقد نبه الإمام السرخسي إلى أن إناطة الفتنة ببعض أعضاء المرأة دون بعض مما لا يستقيم إناطة الحكم به: قال الإمام السرخسي في المبسوط " وخوف الفتنة قد يكون بالنظر إلى ثيابها أيضا...ثم لا شك أنه يباح النظر إلى ثيابها ولا يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها وكفها." اهـ مختصرا.
والثاني: أن القول بجواز كشف الشعر يرده ظاهر النص القرآني ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن) : (النور:31) ، فهو يفيد الأمر بتغطية الشعر، وكذلك ورد نص نبوي خاص بوجوب ستر ما عدا الوجه والكفين ، وهو الحديث الشريف الذي رواه الإمام أبو داود عن السيدة عائشة، وصححه بعض أهل العلم ، فقد نص حديث الإمام أبي داود على وجوب أن تستر المرأة ما عدا وجهها وكفيها، وهذا النص النبوي الشريف يكاد يرفع الاحتمال -الوارد في النص القرآني : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن) (النور:31)- بأن إقرار العربيات على تغطية الشعر هو إقرار من باب التشريع الخاص لا من باب التشريع العام. والله أعلم.
ثم إن الحديث النبوي الشريف حيث جاز أن لا يقتصر عليه فذلك لأجل تحقق حاجة كما قرر بعض الحنفية في جواز كشف القدمين للابتلاء بإبدائهما، و حاجة المرأة إلى كشف شعرها لا ترقى إلى الحاجة العامة التي يصح اعتبارها مع النص، ذلك أن ضابط الحاجة العامة التي يصح اعتبارها مع النص هي الحاجة التي إذا لم تراع لخيف انقطاع الناس عن تصرفاتهم ، نبه على هذا الضابط إمام الحرمين في نهاية المطلب.
والذي يظهر لي- والله أعلم- أن مثل هذه الحاجة لا تجري في مسألة كشف شعر المرأة العاملة التي يتطلب عملها مخالطة دائمة للرجل.
فقولي إن ستر الشعر ليس واجبا وجوبا قطعيا لا يعني أني أذهب إلى رجحان هذا القول كما تقدّم بيانه، وإنما ما ترجح عندي هو أن هذا القول هو قول مرجوح ، ووجوب ستر المرأة شعرها أمام الأجانب هو قول قوي يقترب من القطع والله أعلم.
بقي أن نناقش القول بوحوب أن تستر المرأة جميع جسدها أمام الأجانب ، وهذا القول تكتنفه عندي إشكالات ظاهرة ، وقد وردت أخبار عن النبي r تدل على أن للمرأة أن تظهر وجهها وكفيها، ومؤدى ذلك تخصيص العموم الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم- الذي رواه الإمام الترمذي-: " المرأة عورة"، نبه على ذلك الإمام السرخسي في المبسوط.
ونبه الإمام ابن قدامة في المغني على طريقة أخرى في فهم قول النبي r: "المرأة عورة " حيث قال إن هذا الحديث الشريف عام في جميع بدنها واستثني من ذلك الوجه للحاجة.
هذه الطريقة تتبنّى المواءمة بين ما جاء به الشرع من توجيهات، فينبغي أن يفهم توجيه النبي r بستر المرأة جميع بدنها في ضوء القواعد الكلية القطعية التي نصت على رفع الحرج ، والحرج في ستر المرأة وجهها ظاهر ، كيف والوجه هو مجمع أهم حواسها التي من خلالها تتواصل مع العالم الخارجي، وانظر إلى كلام الإمام ابن العربي المالكي في هذا المعنى: "الزينة على قسمين: خلقية ، ومكتسبة ، فالخلقية: وجهها، فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة، ومعنى الحيوانية، لما فيه من المنافع، وطرق العلوم، وحسن ترتيب محالها في الرأس، ووضعها واحدا مع آخر على التدبير البديع."
ونجد أن نصوص كثير من العلماء تضافرت على معنى رفع الحرج ، وارتباط ذلك بحاجة المرأة إلى كشف وجهها وكفيها ، من ذلك ما قاله الإمام النسفي الحنفي في تفسيره: (إلا ما ظهر منها) ، إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره وهو الوجه والكفان والقدمان ففي سترها حرج بيّن فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح...".
وقال الإمام ابن عاشور في التحرير والتنوير: " واستثني ما ظهر من الزينة وهو ما في ستره مشقة على المرأة أو في تركه حرج على النساء وهو ما كان من الزينة في مواضع العمل التي لا يجب سترها مثل الكحل والخضاب والخواتيم... وفسّر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر منها بالوجه والكفين وقيل القدمين والشعر. وعلى هذا التفسير فالزينة الظاهرة هي التي جعلها الله بحكم الفطرة بادية يكون سترها معطلا الانتفاع بها أو مدخلا حرجا على صاحبتها وذلك الوجه والكفان ، وأما القدمان فحالهما في الستر لا يعطل الانتفاع ولكنه يعسّره لأن الحفاء غالب حال نساء البادية، فمن أجل ذلك اختلف في سترهما الفقهاء..." اهـ مختصرا.
ونجد أن جمهور العلماء يقررون أن استثناء إبداء الوجه والكفين من عموم منع إبداء النساء زينتهن يقتضي إباحة إبداء الوجه والكفين في جميع الأحوال. قاله الإمام ابن عاشور في تفسيره.
والذي يظهر لي- والله أعلم- أن الحاجة التي أبيح لأجلها كشف الوجه والكفين هي حاجة أصلية عامة، تجعل الحكم بإباحة كشفهما حكما أصليا كالحاجة التي أجيزت من أجلها الإجارة.
نتيجة: إن القول بوجوب ستر المرأة جميع بدنها أمام الأجانب -لأن جسدها كله عورة - هو قول مرجوح.هذا ما يظهر لي والله أعلم.
أما القول بأن المرأة يجب عليها أن تستر وجهها وكفيها لخوف الفتنة وليس لكونهما عورة ، ففيما يلي تفصيل الكلام في مناقشة ذلك:
قراءة تحليلية في القول بستر المرأة جميع بدنها لخوف الفتنة:
أوجب كثير من العلماء على المرأة ستر وجهها خوف الفتنة ، وسدا لذريعة الفساد، ثم إن منهم من أوجب على المرأة أن تستر وجهها أمام الأجانب دواما خيفت الفتنة أو لم تخف إذ أن كشف الوجه مظنة الفتنة، وذلك إغلاقا لباب الفتنة، ومنهم من أوجب ستر الوجه إذا خيفت الفتنة ولم يوجبه عند أمن الفتنة، وبعضهم فرّق بين الجميلة وغيرها كما ورد عن بعض المالكية.
وجعل بعض الفقهاء معنى الفتنة زائدا على مجرد النظر بشهوة وذلك أن يجد المرء في نفسه من النظر إلى المرأة ما يدعوه إلى الجماع أو مقدماته، فنجد أن الشافعية ينبهون على أن النظر بشهوة قد يحصل مع أمن الفتنة ، فيقصد المرء التلذذ بالنظر المجرد. والمتبادر من كلام الحنفية أن النظر بشهوة يعد فتنة وإن اقتصر عليه المرء.
ثم إن الإمام ابن عابدين نبه في حاشيته على أن مجرد الميل إلى الصورة الحسنة لا بأس به، ولا يخلو منه الطبع الإنساني، وأن المحرّم هو التلذذ بالنظر الذي يزيد على مجرد استحسان الصورة .
والذي يظهر لي والله أعلم: أن ضبط مسألة افتتان الرجل بالمرأة مما يعسر ، لأنها تتعلق بأمر باطن، لا يطلع عليه سوى صاحبه، فكيف نلزم المرأة بأمر باطن يصعب ضبطه ؟
وقد نبه الإمام الغزالي في الوسيط إلى هذا المعنى ، قال: " وإن كانت أجنبية حرم النظر إليها مطلقا ومنهم من جوز النظر إلى الوجه حيث تؤمن الفتنة وهذا يؤدي إلى التسوية بين النساء والمرد وهو بعيد لأن الشهوة وخوف الفتنة أمر باطن فالضبط بالأنوثة التي هي من الأسباب الظاهرة أقرب إلى المصلحة.".
فالإمام الغزالي يقرر أن الرجل يحرم عليه النظر إلى المرأة الأجنبية مطلقا ، لأن تعليق تحريم النظر بخوف الافتتان هو أمر لا يمكن ضبطه ، وبتعبير آخر هو أمر يختلف من شخص لآخر، بل إن الإنسان قد لا يستطيع أن يعلم من أمر نفسه متى يشتهي ومتى لا يشتهي، ومن ثم فإن ربط تحريم النظر بالأنوثة هو ربط بسبب ظاهر منضبط لا خفاء ولا اضطراب فيه، وهو أقرب للمصلحة.
والسؤال هنا هو: إذا كانت الشهوة والفتنة مما لا يستطيع صاحبها وهو الرجل ضبط العلم بحصولها، فكيف تلزم المرأة بستر وجهها عند خوف الفتنة؟
فنحن إذن أمام أمر واحد حيث أردنا اعتبار خوف الفتنة سببا لستر المرأة وجهها وهو أن نقول إن المرأة يجب عليها أن تستر وجهها مطلقا ونضبط الأمر بالأنوثة كما قرر الإمام الغزالي.لكن الذي يظهر لي- والله أعلم- أن القول بوجوب ستر المرأة وجهها وضبط ذلك بالأنوثة مردود من وجهين:
أحدهما: ما جاء في السنة المطهرة من أن النبي r نص على أن للمرأة أن تظهر وجهها وكفيها ، وهو حديث الإمام أبي داود عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يُرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه، فحيث قلنا بصحة هذا الحديث، كان نصا في رد هذا القول، لأن رسول الله r يعلم أن اشتهاء الرجال للنساء جبلة وطبيعة، كما أن خوف الفتنة لا يخلو منه عصر ولو كان عصر النبوة كما سيأتي بعد سطور في حديث الإمام الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الفضل بن العباس رضي الله عنهما ،ومع ذلك فإنه r لم يعتبر هذه المصلحة ، وهي مصلحة سد باب الفتنة من طريق ستر المرأة لوجهها.
وحيث قلنا بعدم صحة حديث الإمام أبي داود المتقدم ذكره، فإن إقرار النبي r الصحابيات على كشف وجوههن ليس فقط هو دليل على جواز كشف الوجه ، وإنما يدل أيضا على عدم اعتباره r مصلحة سد باب الفتنة من طريق ستر المرأة وجهها.
بل إنه فيما بحثت لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح صحيح غير مخصص يدل على توجيه النبي r النساء أن يغطين وجوههن، ولو كان سد باب الفتنة أحد طرقه هو ستر النساء لوجوههن ، لنص الشارع الحكيم عليه نصا صريحا غير محتمل الدلالة، في مسألة هي من المسائل التي تعم البلوى بها، وتمس الحاجة إليها.
وقد وجدت تعليقا لطيفا للإمام الألوسي عند كلامه في تفسير قوله تعالى: ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) (الأحزاب: ٥٩) يتفق مع ما تقدّم من عدم اعتبار الشرع مصلحة سد باب الفتنة من طريق ستر المرأة وجهها قال: " وقال أبو حيان: أي ذلك أولى أن يعرفن لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ولا يلقين بما يكرهن لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرّجة فإنها مطموع فيها، وهو تفسير مبني على رأيه في النساء." اهـ
فانظر إلى قوله: " وهو تفسير مبني على رأيه في النساء"وما فيه من لطف الإشارة إلى عدم اعتبار ستر المرأة وجهها طريقا لسد باب الفتنة.
وقد نبهت السنة المطهرة على طريق آخر لسد باب الفتنة ، وتأتي فيه السنة المطهرة مؤكدة للقرآن الكريم الذي أمر الرجال والنساء بغض الأبصار وحفظ الفروج، قال تعالى في سورة النور: ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ...) (النور:٣٠). وقال تعالى: ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن) (النور:٣١ (فالطريق الذي نبهت عليه السنة المطهرة تأكيدا لتوجيه القرآن الكريم ، هو طريق غض الرجل بصره عن النظر المحرّم ، فقد روى الإمام البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: " كان الفضل رديف النبي r، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي r يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أ فأحج عنه؟ قال: " نعم" وذلك في حجة الوداع.".
وروى الإمام الترمذي عن النبي r في حديث الفضل ابن العباس رضي الله عنهما: " و لوى عنق الفضل"، فقال العباس: يا رسول الله لمَ لويت عنق ابن عمك ؟ قال:" رأيت شابا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما". قال الإمام الترمذي: حديث حسن صحيح.
والشاهد من الحديثين الشريفين أن النبي r لم يأمر المرأة بستر وجهها وإنما صرف وجه الفضل رضي الله عنه عن النظر، وبين النبي r سبب ذلك بأنه خاف الافتتان على ابن عمه رضي الله عنهما.
لا يقال إن المرأة محرمة، ولذلك لم يأمرها النبي r بستر وجهها، ذلك أنه لو وجب على المرأة أن تستر وجهها إذا لم تكن محرمة حيث خيفت الفتنة لنبه النبي r على ذلك لأن مثل هذا الأمر يحتاج إلى بيان في هذا الموقف وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز على النبي r.
الوجه الثاني:
لقد قرر الشارع الحكيم مسؤولية كل طرف حيال علاقته بالطرف الآخر، فستر المرأة جميع جسدها إلا ما استثني في غير تبرّج -حيث أقصينا القول بوجوب ستر جميع جسدها-هو مسؤولية تتحملها المرأة – وهي مسؤولية في رتبة التحسينات، وغض البصر عن النظر المحرّم هو مسؤولية الرجل –في هذا السياق- ، فلو قلنا إن المرأة يجب عليها أن تستر وجهها لأجل إعانة الرجل على عدم الإثم كما ذهب إلى ذلك الإمام ابن حجر الهيتمي نكون- فيما أفهم- قد خالفنا ما رتبه الشارع من توازن بين الأحكام ، وأضعفنا حس الرجل تجاه مسؤوليته عن أن يلتزم بتوجيه الشارع، ويغض بصره عن النظر المحرّم، دون أن يحمّل المرأة مسؤولية إضافية لم يحملها الشارع إياها. لا سيما أن مسؤولية الرجل عن غض البصر تقع في رتبة مكملات الضروري.
وفي القول بعدم وجوب ستر المرأة وجهها في هذه الحال أيضا موافقة للمقصد الذي لأجله شرع عدم ستر الوجه وهو حاجة المرأة لمزاولة حياتها دون حرج. وقد نبّه جمع من العلماء على هذا المقصد عند كلامهم على المراد من الزينة الظاهرة في قوله تعالى: ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) .
وقد يقال فلنحمل الأمر على الاستحباب، ونقول إن المرأة يستحب لها أن تستر وجهها في الطرقات.
والذي يظهر لي – والله أعلم- : أن القول بالاستحباب ينبغي أن يحمل على الحالات الفردية لا على التشريع العام، لأن تحول هذا المندوب من أمر جزئي إلى كلي ينقض كليا ثبت بالنص وهو حق المرأة في أن تزاول حياتها دون حرج، فإذا التزمت بهذا المندوب جميع النساء فكيف تتصرف المرأة في حاجاتها دون حرج ؟ أضف إلى ذلك أمرا آخر وهو دور السياق الاجتماعي في نظرة الفقيه ، ذلك أن المرأة عبر العصور كانت غالبا تلزم بيتها، ولا تخرج للعمل، كما هو الحال في عصرنا، الذي كثرت أعباؤه الاقتصادية ، ورافق ذلك تفكك في الشبكات الاجتماعية ، فالقول بستر المرأة لوجهها في هذا العصر مع ما بينته من اختلاف طبيعة حياتها، فيه حرج ظاهر. والله تعالى أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق