الأحد، 5 مايو 2024

الحب، الجواب الوحيد . قراءة في كتاب " فن الحب"


                تكون الحياة سخيّة دائما في اختطافنا من أماننا البليد كلما توقفنا عن محاولة فهم أعمق لأنفسنا. تتبدّى حينها لنا الأسئلة  الوجودية من جديد.

وفي رحلة الأسئلة الكبرى يجيء كتاب : " فن الحب" لإريك فروم ( 1900م-1980م) ليقدم مقاربة عميقة، ومحاولة فيها أصالة للإجابة عن معضلة الوجود المتعلقة بأسئلة السكينة الداخلية التي تتبدّى لكثيرين كنعيم بعيد مناله.  

نشر الكتاب بالإنجليزية لأول مرة في عام 1965م . وأعادت نشره  مترجما هذا العام  ( 2023م )  دار صفحة سبعة للنشر، وترجمه بلغة واضحة الأستاذ متيّم الضايع، والكتاب يحوي 158 صفحة من القطع المتوسط.

وللكتاب ترجمتان سابقتان ، إحداهما نشرتها دار عودة عام 2000م، ترجمة الأستاذ مجاهد عبد المنعم مجاهد . والترجمة الثانية نشرتها  دار علاء الدين  عام 2010م، ترجمة الدكتور سعيد الباكير .

الحب كموقف وجودي

                لم أفكر يوما في حب النفس من الزاوية التي طرحها إريك فروم في هذا الكتاب، لا يفصل إريك فروم حب النفس عن حب الله ، وعن حب الناس، وعن حب الفضيلة ، يرى أن الحب هو موقف وجودي أولا ، هذا الاتساق المنهجي كان اكتشافا  معرفيا جديدا بالنسبة لي.

                توجّه كتب علم النفس الذين يعانون من"  ظلمهم لأنفسهم " إلى معاملة أنفسهم كصديق مقرّب، هذا سيساعدهم على الاعتدال، والاتصال المتزن بدواخلهم، لكن ما طرحه إريك فروم في هذا الكتاب يعالج المسألة معالجة ترد الجزئي إلى الكلي، فأنت تحب نفسك؛ لأن الحب هو موقفك الأصيل "الذي يحدد علاقتك مع العالم كله".

                الحب عند إريك فروم لا يتجزأ ، هو وحدة متسقة ، لا يستقيم عنده أن تحب الله وأنت     لا تحب نفسك، أو أن تحب نفسك وأنت تظلم الآخرين، أو تتحكم في حياتهم أو خيارتهم، أو تقصّر في احترام كرامتهم، كل ذلك ليس حبّا وإن توهم صاحبه أنه كذلك .

                ويقوم الحب عند إريك فروم على أربعة معاني : المسؤولية، والمعرفة، والاحترام، والرعاية . وهذه المعاني يقاربها المحب ولا يتحققها؛ فالحب محاولة فهم مستمرة . أعجبني تأكيد فروم مرّات على أن فكرة تحققنا بفهمنا لذواتنا هي فكرة مراوغة، وأننا لا نلبث أن ندرك ذلك كلما ظننا أننا وصلنا. فهمنا لأنفسنا رحلة مستمرة ، وكذلك فهمنا لمن نحب، وقناعتنا بذلك تهبنا التواضع الضروري لتزدهر أرواحنا ، وتزدهر علاقتنا بمن نحب.

تعلّموا تحت قناع الفضيلة ألا يحبوا الحياة

                علاقة الوالدين بالطفل أخذت نصيبا مهما من كلام إريك فروم عن الحب. قسم فروم الحب الوالدي  إلى حب أمومي غير مشروط، وحب أبوي مشروط ، وجعل هذين النمطين في علاقة الطفل بأبويه أصلا ما سواهما استثناء ، وهذا عندي غريب، غريب عن منهجه في تأصيل معنى الحب، وغريب في جعله ذلك قاعدة أصيلة، وغريب في استصحابه هذين النمطين في شرح علاقة المخلوق بالخالق العظيم سبحانه. ولعل الإشكال عنده جاء من فكرة العقاب الإلهي وعدّها أساسا لفكرة الحب المشروط ، وهذا عندي اضطراب في الفهم ، وقياس فاسد.

                نبّه إريك فروم إلى مسائل تربوية مهمة منها كلامه عن أن مسؤولية الأم تجاه طفلها تتجاوز الرعاية التي تهبه أمان تلبية الضروريات الجسدية  إلى الرعاية التي تهبه حب الحياة ، أحببت عبارته: " يجعل ( الحب الأمومي)  شعور الطفل كما يلي : من الجيّد أني ولدت ؛ إنه يغرس في الطفل محبة الحياة، وليس فقط الرغبة في البقاء على قيد الحياة" . كلامه هذا ذكرني بعهد تعاهدناه أنا وصديقة لي في تربيتنا لأطفالنا : أن نكون يقظين إلى فكرة أن  تكون تربيتنا لأطفالنا الأصل فيها البهجة والاحترام لا النكد، وكلامي هذا تدرك تحدياته كل أم .

                ومن الأفكار الدقيقة التي نبّه إليها فروم  أن الحب مظهره التوازن في العلاقة بالمحبوب، وأن التطرّف في الاهتمام يلبس ثوب الحب زورا بينما هو في حقيقته اختلال لا ينتمي للحب وإنما لاضطراب في النفس . تحدّث فروم عن الشخصية الإيثارية التي لا تريد شيئا لنفسها، وتمارس دور " المخلّص" مع الآخرين بينما تهمل حق نفسها . يقول فروم عن الشخصية "الإيثارية ": تشعر بالفخر لأنها لا تعد نفسها مهمة  إلا أنها تشعر بالحيرة عندما تجد نفسها غير سعيدة على الرغم من عدم  أنانيتها، وأن علاقتها بالمقرّبين غير مرضية. ويظهر العمل التحليلي أن الإيثار المتطرّف هو عرض لاضطراب نفسي ترافقه أعراض أخرى كالاكتئاب . هذه الشخصية محاصرة بالعجز عن الاستمتاع بالحياة ، والعجز عن الحب ، وهذا يجعلها في حالة عداء مستترة نحو الحياة، وخلف ستار الإيثار يتوارى تمحور خادع حول الذات لا يقل حدة ، ولا يمكن للشخص "الإيثاري"  أن يشفى إن لم يدرك اضطرابه هذا." اهـ بتصرف.

                الأم التي تتطرف في إيثار أولادها على نفسها ، هي لا تؤذي نفسها فقط ولكنها تؤذي أولادها، وخلافا لما هو متوقع فإن السلوك الإيثاري المتطرّف يحرم الأطفال رؤية نموذج سوي للتعامل مع النفس . الإيثار المتطرّف لا يوصل للأطفال أنهم محبوبون بل يجعلهم في حالة قلق دائم من عدم استحسان الأم وتخييب توقعاتها ، فهم يتعلمون تحت قناع الفضيلة ألا يحبو ا الحياة .

                يقول إريك فروم : " لا شيء يساعد على منح الطفل تجربة الحب والبهجة والسعادة أكثر من كونه محبوبا من أم تحب نفسها " .

                سطور إريك فروم هذه مستني كأم، وأظن أن كثيرا من الأمهات سيتوقفن عندها، ذكّرت نفسي وأنا أقرأ كلام فروم  أن حب الأم كسائر أنواع الحب هو محاولة تعلم مستمرة عن أنفسنا، وعمّن نحبهم. وما نتعلّمه هو وسيلة لمحو ظلمة الجهل، لا لتلبّس ظلمة قسوة إطلاق الأحكام على أنفسنا أو على الآخرين .

الحب ليس غيابا للصراع

                يرى إريك فروم أن الحب هو اتحاد شخصين بما يمكّنهما من الشعور بالسكينة وتمام الألفة، وهو في نفس الوقت يحققهما باستقلالهما المتعلق بطبيعتهما الخاصة ، فهو اتحاد يحفظ لكل طرف ذاتيته ولا يلغيها. يؤكد فروم أن هذا المعنى يؤكد على فكرة أن الحب لا يغيب معه الصراع، بل إن الصراع هو مظهر من مظاهر التحقق بالاستقلالية، وتعرّف كل طرف على حدود الطرف الآخر، وبالمحافظة على الحدود تحفظ توازنات العلاقة. إن رفض فكرة الصراع هو نوع من المزايدة، وهو يؤول إلى أحد أمرين، إما علاقة تراوغ الوحدة في صورة المحافظة على الصلة السطحية التي لا عمق فيها بين الطرفين ، وإما علاقة يتنازل فيها أحد الطرفين عن حقوقه رغبة للحفاظ على السلام في العلاقة فينتهي الأمر إلى علاقة يشعر فيها الطرف الذي يتنازل دوما بالقلق وعدم الأمان، هذا في أدنى الأحوال، إن لم تتحول العلاقة إلى علاقة استغلال نتيجة تمييع الحقوق.

                الصراع المثمر عند إريك فروم هو الصراع الذي يتجاوز الأمور السطحية التي يسجن الناس خلافاتهم فيها، وبالتالي يصطدمون بأبواب مسدودة أينما ولّوا وجوههم، إلى محاولة فهم الأسباب الجذرية للاختلاف. يقول فروم إن " هذه الصراعات ليست مدمرة وإنما تؤدي إلى التوضيح، وتخلق متنفسا يخرج منه الاثنان بمزيد من المعرفة والقوة".

الجواب الوحيد   

                يقول إريك فروم  في آخر سطور الكتاب : " الحب هو الإجابة العاقلة المرضية الوحيدة لمعضلة الوجود البشري فإن أي مجتمع يستبعد بشكل نسبي تطور الحب ، لا بد أن يهلك على المدى الطويل بسبب تناقضه مع ضرورات الطبيعة البشرية الأساسية " .  هل كانت مقاربة أريك فروم في تحرير مفهوم الحب ، وأنواعه، وسبل ممارسته، كافية ؟ لا أجدها كذلك ، لكنها إضافة منهجية ثرية لا غنى عنها في علم نفس العلاقات.

                                         

* نشرت هذه المقالة في مجلة الجوبة / العدد 81 / ديسمبر 2023م

               

               

 

طواحين وجودية ( مذكرات 2023م) .

 


بدأت منذ أيام في القراءة الثالثة لكتاب : قواعد التصوف للإمام زروق ، وهذه المرة أقرؤه من نسخة ورقية اقتنيتها قبل أسبوع من معرض جدة للكتاب، القراءة الأولى كانت من نسخة ورقية أخرى لم يُقدّر لها أن تغادر معي عندما غادرت حياة سابقة في عالم هو في حسي اليوم – في بعض آفاقه -عالم مواز.

قواعد التصوّف كتاب ينظم للمسلم عالمه الداخلي، ويعيد ترتيب أولوياته الوجودية، ويضم برفق قلبه الذي أثقلته إملاءات الحياة. وجدت أني قد ألفت لغة الإمام زروق ، أقرأ العبارات ولكأنها تطابق أخرى قد استقرت من حيث لا أشعر في قلبي ، أقرأ السطر فأحسه يألفني، أحسه قريبا يذكرني أن الله قريب، ودينه قريب ، ورحمته قريبة.

وهذا العام بكل الوجع الذي عصف بنا بسبب العدوان في غزة والسودان هو عام قرب وجودي بالنسبة لي ، قرب من أهم معنى وجودي وهو التسليم للقدر، وجع غزة تحديدا وأولا كان هو السبب فيه . هذه الوحشية التي يعانيها أهلنا هناك، هي في ملك الله، وهو سبحانه             لا زال يمد للمجرمين مدّا في غزة ، وهذا الإفساد العظيم وسفك الدماء،  هو قدره : (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) .

في ليال عديدة كان عقلي يكاد يجن من التفكير ، أينك يا رب. إيماني بوجوده لا شك فيه، ثم تجلى لي أنه مريد كما أنه قادر، فكيف أحاكم إرادته سبحانه، وقد سأل الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فقال لهم سبحانه : إني أعلم ما لا تعلمون.

فلمّا تجلى لعقلي معنى أنه مريد ، يفعل في ملكه ما يشاء، وهو مع ذلك الرحمن الرحيم، الحكيم لا معقّب لحكمه ، وأنه يعلم ما لا نعلم ، سلّمت ، سلّمت وعدت لأسئلتي الوجودية التي تتعلق بقدري الشخصي، والتي كانت تؤرقني منذ سنوات، وكنت أراوغها عقلا ، وألاطفها قلبا ، فلا تكاد تجعل وجداني يهدأ، تعصف بي، ولم أجد لها حلا في أغلب الوقت إلا بالتجاهل الذي ترافقه مرارة ، وينغص عليه غضب كامن لا يكاد ينطفئ، وشعور بالعجز يسلب الروح أمانها.

وجع غزة الكبير داوى وجعي الشخصي، داواه بترياق التسليم للرحمن الرحيم، القهّار الحكيم ،  مالك الملك . كل كسر هو منه، وكل نقص هو منه، وكل فقد هو منه، وكل حرمان هو منه، سبحانه يعلم ما لا نعلم .

التصالح مع القدر  وفق رؤية الدين هو الطريق الوحيد للأمان النفسي ، هذا ما خلصت إليه. ماذا بعد ما يحدث في غزة من فساد وشر ؟ أتراني أصارع طواحينا لا جدوى من مصارعتها؟ القدر ملك الله ، والرضا والتسليم بأنه لا جواب على سؤال المعاناة ، وسطوة الشر، هو طريق الأمان الوحيد. رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.

 

 

 

 

فقه المساواة ، قراءة في كتاب: هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ *

لعل كل من لديه اهتمام بقضايا المرأة في الإسلام لا بد أن يلفت نظره هذا العنوان لكتاب مترجم. الكتاب للدكتورة ليلى أبو لغد أستاذة الأنثروبولوجيا ودراسات المرأة والنوع الاجتماعي في جامعة كولومبيا.

تقول الدكتورة ليلى أبو لغد في مقدمة النسخة العربية إنها كتبت هذا الكتاب بالإنجليزية للقارئ الأمريكي والأوروبي، وإن استصحاب هذه الوجهة في قراءة الكتاب سيكسب القارئ العربي فهما أعمق للمناقشات خارج العالم العربي.

حسنا، لقد قرأت الكتاب وفكرة كونه مكتوبا لجمهور آخر حاضرة عندي، لكني مع ذلك وجدت أن منهجية الكاتبة في مناقشة الأفكار لا تختص بجمهور معين، لأنها تؤسس لنظر موضوعي أصيل في القضايا الإنسانية.

  الموضوع الرئيس للكتاب  -الذي صاغت المؤلفة عنوان الكتاب استنادا إليه - هو تفنيد دعوى أن إنقاذ المرأة الأفغانية من التطرف الإسلامي هو سبب غزو أمريكا لأفغانستان.

ولعل هذه الدعوى ستبدو للقارئ العربي خداعا مبتذلا، لا سيما مع ما تضمنته من جعل الحجاب عائقا للمرأة عن الازدهار الإنساني والعقلي، وهذا ما يكذبه الواقع، و ينم عن جهل  بحياة المسلمات العربيات وغيرهن .

لقد نجحت د. ليلى أبو لغد في أن تنقل لي كقارئة عربية  كيف يفكر الغربيون، وكيف يناقشون قضايانا الإنسانية. ووجدت في الكتاب مادة ثرية ومكثفة في عرض بعض الأفكار قادتني للقراءة عنها في مصادر خارجية لأستطيع فهمها بوضوح .

وما أنا معنيّة به في هذه المقالة هو أن أتخيّر من الكتاب ما وجدت أنه أضاف إليّ فلسفيا أو منهجيا في تناول القضايا الإنسانية، وأن أقدّم قراءتي لبعض قضاياه كامرأة عربية مسلمة متخصصة في الفقه .

 إن الإشكالية الكبرى المتعلقة بفقه المرأة عند بعض الفقهاء هي أن الفقيه يتعامل مع المرأة من خلال علاقتها بالرجل لا من حيث كونها إنسانا مستقلا شرّع الله الأحكام له أصالة كما شرّعها للرجل أصالة، وأنها ستأتي الله يوم القيامة فردا ، كما سيأتيه الرجل يوم القيامة فردا.

 إن قراءة النصوص الشرعية انطلاقا من هذه الرؤية التي تحفظ للمرأة حقها كإنسان مستقل         لا تابع يجعلنا نخرج بنتائج مختلفة في مسائل فقه المرأة، مسائل علاقتها بنفسها ، وعلاقتها بجسدها ، ولباسها ، وعلاقاتها الإنسانية ، واختياراتها الحياتية.

المساواة أصل في التكليف للجنسين، المساواة في الاستقلالية، والكرامة، والتواصل المتزن مع الحياة.  ومن المهم التأكيد على أن العدالة التي تتعلق بمسائل فقهية تفصيلية تؤول إلى فكرة المساواة ولا تنقضها[1].

          في هذه المقالة سأقدم نماذج فقهية تتسق مع الرؤية الكلية التي قدّمها الإسلام لعلاقة المرأة بالحياة، وهي رؤية تنطلق من أصل المساواة في التكليف والكرامة الإنسانية وكون المرأة إنسانا مستقلا لا تابعا للرجل.

الاختيار كقيمة مقيّدة:

          ننظر للاختيار كقيمة مطلقة، بينما هو عند التحقيق مقيّد بالمبادئ العامة التي نعتنقها، سواء كانت هذه المبادئ محافظة أو متحررة .

          قد تبدو هذه الفكرة مستفزة لمن عوّدتهم الحياة أن يعيشوا وفق اختيارات غيرهم، لا سيما بعض النساء في مجتمعاتنا العربية، لكن لعل هذه الفكرة تذهب بعيدا إلى العمق في نقض دعوى أن بعض الديمقراطيات الغربية تحرر المرأة المسلمة حين تسن تشريعات تمنع تغطية الشعر أو الوجه. تقول ويندي براون[2]:  ولكأن العلمانية تستند في قضية لباس المرأة إلى أن الجسد العاري والتباهي بالحرية الجنسية رمز لحرية المرأة وحصولها على المساواة إن لم يكن مقياسا لهما،  وهكذا ينظر للمسلمات اللاتي يلبسن ما يعددنه لباسا شرعيا على أنهن يعشن حيرة ما.

          هل التقطتم معي الإحساس بالتفوق الذي يحاكم إليه هذا التوجه فكرة اختيار المرأة المسلمة للحجاب ولكأن هذا الاختيار هو مظهر لمرحلية في التفكير لم تبلغ تمام النضج .  

لقد تناولت د. ليلى فكرة الاختيار كقيمة مقيّدة في موضعين مختلفين من الكتاب. الموضع الأول في أول الكتاب ونقلت فيه عن ويندي براون قولها : " " كل اختيار هو إلى حد ما رهين السلطة، بل ومتأثر بها، وأن كل اختيار إنما يباعد المرء عن الحريّة إلى حد ما" . فاختيار المرء مبدأ عاما ما يجعله – عند تجريد الفكرة – مقيدا بهذا المبدأ وتطبيقاته.

والموضع الثاني في آخر الكتاب بعد نقلها لكلام طويل لجوديث بتلر[3] عن وهم الاختيار الحر لتؤكد على أن لدى البشر مشتركات إنسانية تؤكد على أن الاختيار قيمة مقيدة، وأن استصحاب هذه الزاوية في التفكير الحقوقي يحميه من الوقوع في ارتباكات منهجية، ويقوده لتحقيق العدالة بعيدا عن ضلالات ادعاء التفوق الأخلاقي.  

          في السطور السابقة ناقشنا المسألة في بعدها الفلسفي، ولا يسعني كدارسة للفقه أن أتجاوز مناقشة كيف يتناول الفقيه مسألة منع القانون المرأة من تغطية الشعر أو الوجه ، أما التشريع الذي يمنع ستر الوجه فأمره يسير، لأن هذا التشريع إن صدر عن قانون يستند إلى الشريعة فهو تشريع صحيح استنادا على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف[4]، ويجب حينها على المسلمات كشف وجوههن ، وينتقل كشف الوجه في حقهن إلى الوجوب بدلا من الجواز أو الاستحباب .

المسألة الأشد تركيبا هي إذا صدر قانون يمنع المسلمات من تغطية الشعر في بلد غير مسلم، فهنا يفعّل فقه الأولويات فتستر المرأة من شعرها ما لا يعرّضها للأذى، ولا تعطل حياتها وعيشها بكرامة مادية ومعنوية [5].  

          وقد سألت امرأة العلّامة علي جمعة عن اضطرارها لخلع الحجاب في منشأة تمنع عمل المحجبات- والحال أن هذا العمل هو مورد الحياة الكريمة بالنسبة لها ولا مورد سواه - فقال لها الشيخ : إن عليها أن تحتفظ بغطاء للرأس في حقيبتها فتلبسه بمجرد انتهاء وقت العمل، فقالت: ألا يكون فعلي هذا نفاق ؟ فقال فضيلته : بل طاعة بحسب الاستطاعة[6].

          كلام العلّامة عي جمعة فيه مراعاة لفقه الأولويات، وفيه حفظ لحق المسلمة في حياة كريمة            مادامت لم تستطع أن تجد عملا آخر يحفظ حقها في ذلك.

          الفقيه المسلم لا يغيب عن تكوينه العلمي البعد الفلسفي في المسائل الإنسانية لكنه يفتي الناس بما يعينهم على أن يعيشوا واقعا لا حرج فيه ، ولا تعسّر ، ولا حرمان من العيش الكريم.

 

الإدانة الثقافية

          تناقش د. ليلى أبو لغد باستفاضة ما سمته بالحس العام الجديد في العالم الغربي والذي يتوجه إلى الإدانة الثقافية لأي ثقافة لا تتبنى التوجهات الليبرالية في العلاقة بين الجنسين ، وتنبه إلى أن هذا التوجه يسقط دراسة السياقات السياسية والاجتماعية والقيم الخاصة بأخلاق الرعاية والانتماء للعائلة التي تتبناها الثقافات الشرقية، ويحاكم كل ذلك إلى قيم الثقافة الغربية .

ناقشت المؤلفة في فصل كامل قضية جرائم الشرف، ونبّهت إلى أنها ليست قضية جندرية محضة، بل هي قضية جهل وانحراف في المقام الأول، وبرهنت على ذلك بتضافر الجهود الحكومية والدينية والمدنية للقضاء عليها، وأكّدت على أن العنف الأسري ليس حكرا على ثقافات الشرق بل لا تخلو منه المجتمعات الغربية أيضا :" يشهد لذلك صحف أمريكا وأوروبا وقضاتهما ومحاموها وعلماء النفس فيهما وسجونهما". تقول المؤلفة : ويأتي الإشكال المنهجي من ازدواجية التعامل مع العنف الأسري الذي يتم ربطه بالثقافة عند حصوله في المجتمعات الشرقية بينما يُكتفى بإدانة مرتكبيه في مجتمعات أخرى.

      هذا التنبيه المنهجي ينبغي ألا يسقِط -في خطابنا الداخلي في مجتمعاتنا المسلمة -أهمية التركيز على أن المرأة في الدين مساوية للرجل في الواجبات، وأن تكليفها هو تكليف من الله عز وجل تتعبّد الله بطاعته، وليس لأجل جعل الرجل حاكما على اختياراتها الدينية والأخلاقية، بل يحتكم الرجل والمرأة معا إلى الشرع وإلى القانون.

نعم، قضية جرائم الشرف هي قضية جهل وانحراف لكنها لا تخلو من بعد تمييزي ينظر للمرأة على أنها تبع للرجل لا مستقلة عنه ، ويجعل اختياراتها تحتكم إلى اختياراته لا إلى قيم الرعاية التي أقام الله عليها العلاقة بين الجنسين.

هناك قدر من التبرير يسكن جزءا من العقل الجمعي العربي لمرتكب جريمة الشرف – إن صحت هذه التسمية- وهذا التبرير منزعه الخلل في فهم ما جاء به الإسلام من تكريم وعدالة  للمرأة والرجل معا. لقد قال الإمام أحمد الطيب في برنامجه الرمضاني ( الإمام الطيب 1444هـ )  عن المرأة كلمة جسّدت واقع الحراك الفقهي في قضية المرأة ، قال : ولكأن فقه المرأة لم يخط فيه قلم.

 و ما أؤمن به هو أن التغيير يتعاضد فيه الفكر مع القانون مع إصلاح كافة السياقات التي تعقّد المعاناة الحقوقية ، وهو ما يتحقق في المملكة العربية السعودية تحققا يلمس المنصفون آثاره ومنافعه.

 

العدالة المتعالية

          هكذا وصفت المؤلفة د. ليلى أبو لغد  التوجه العام في القراءة الحقوقية الغربية  لمعاناة المرأة المسلمة، والذي يبرز المعاناة الحقوقية ولكأنها خاصة بالمسلمات في الدول العربية والإسلامية. تقول د. ليلى            أبو لغد: "يعد الفشل في البحث عن أوجه التشابه- أي التشابه في قضايا الانتهاكات التي تعاني منها المرأة في جميع بلاد العالم - أمرا خطيرا . فهذا التقصير لا يجعلنا ناكرين لإنسانيتنا المشتركة وحسب، بل متواطئين أيضا ...إذ استخدمت حقوق النساء غطاء سياسيا للتدخل في أفغانستان" [7].

قدّمت د. ليلى أبو لغد للجمهور الأمريكي والأوروبي -الذي تنتمي إليه ثقافيا -قراءة تحترم المشتركات الإنسانية ، والتعددية الثقافية، وتنبذ الفكر الاستعماري في غطائه الإنسانوي، وتدعو للتكافل مع الجهود الساعية لتحقيق العدالة للمرأة المسلمة دون مزايدات أخلاقية -تجرّد الثقافات الشرقية من ثرائها- ،وأوهام تجعل الاختيار الحر خاصا بالوجهة الليبرالية في المسائل الحقوقية.

          لقد احترمت الجهد المنهجي الأصيل، والبحث الذي يحفر في عمق الأفكار والوقائع ، ويحررها من سطوة الأفكار السائدة. وفي الكتاب تجديد مثر يتماس مع الواقع تماسّا يقود لتنوير حقيقي وفاعل.

          يقع الكتاب في ثلاثمائة وخمس صفحات، ونشرته في عام 2022م  دار صفحة سبعة السعودية، بترجمة من الدكتور محمد الرحموني . ممتنة حقا للمؤلفة د. ليلى أبو لغد ولكل من ساهم في إخراج هذا العمل المهم للقارىء العربي.

 *نشر هذا المقال في موقع سؤال بتاريخ 15/ 6/ 2023م                   

 

 



[1] تناولت هذه الفكرة في خصوص العلاقة الزوجية في مقالتي بعنوان : الزوجة في الإسلام ..  سؤال العدالة .

[2] كاتبة نسوية، وعالمة سياسة أمريكية معاصرة.

[3] فيلسوفة أمريكية نسوية معاصرة .

[4] هنا تأصيل حسن في هذه المسألة، بعنوان : "حدود ولي الأمر في تقييد الواجب والمندوب"، لفضيلة مفتي مصر: أ.د شوقي إبراهيم علّام .

[5] ينظر كلام العلّامة عبد الله بن بيه في تأصيل هذه المسألة في كتابه: " صناعة الفتوى وفقه الأقليات" ص319/314              

[6] برنامج والله أعلم لفضيلة العلامة علي جمعة على قناة cbc . حلقة بعنوان : من تخلع الحجاب لم تكفر .

[7] النقل بتصرف من كتاب : هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ ؟  ص 237-ص 300


الأمومة رحلتنا غير النمطية *

 


 

خلافا لبعض الصديقات لم تكن الأمومة حلما لي يوما؛ إذ كنت أفكر في ثقل المسؤولية المرتبطة بالأمومة فيصدّني ذلك عن الإنصات إلى أحاسيسي الداخلية. وفي لحظة تنوير، توكّلت على الله، وقررت أن أنفتح على تجربة الأمومة، وكنت أدعو الله أن يهبني بنتا؛ لأني تصوّرت صعوبة أن أكون أمّا لكائن لم أمر بتجربة شعورية تشبه تجربته من حيث طبيعة الجسد، والثقافة. واستجاب الله دعائي ورزقني آمنة.

ولدت آمنة، واستقبلها أبوها مبتهجا، واحتضنتها أمي ، ثم قالت لي : تريدين احتضانها، فقلت لها إني متعبة من الولادة، المهم أنها بخير- لم أكن أعلم حينها أن الخروج من ضيق الرحم إلى عالم مختلف، قد يجعل الطفل بحاجة إلى حضن أمه-، كنت أشعر أن مسؤوليتي الحالية هي ولادتها، وقد أنجزت ذلك ، وهذا كاف ، وهي في أيد أمينة.

 

إنسانيتي لا أمومتي

كنت أريد وقتا مستقطعا بعيدا عنها قبل أن تصبح رفقتنا لا مناص منها. ولأشهر خمسة لم يكن إحساسي الغالب حيالها سوى إحساس المسؤولية عن كائن كنت من تسبب في وجوده في هذا العالم . قلت لصديقة لي -وهي أم حنون-: الشعور الغالب عليّ حيال آمنة هو شعور المسؤولية الإنسانية والدينية، حتى حنوّي عليها هو حنوّ ينبثق من إنسانيتي لا من أمومتي؛ إذ لم أميّز مشاعر الأمومة بعد، لا أعرف كيف هي. كنت أشعر أن رحمتي لها ، هي رحمة عامّة كما سأرحم أي طفل ، لم أكن أشعر برحمة الأمومة الخاصّة- التي أكرمني الله بها بعد الشهر الخامس تقريبا- . قالت لي: هذا غريب جدا ، كيف لا تحسين بمشاعر الأمومة؟

 

نسختي الخاصة من الأمومة

لم أخبر أحدا بعد ذلك عن مشاعري، كنت أشعر بالذنب، والخزي معا، وأقول لنفسي: لم تكتمل الأمومة لديك بعد، لكنك تفعلين ما بوسعك للاهتمام بطفلتك الصغيرة.

ثم أغاثتني ذاكرتي بما قرأته للإمام العز بن عبد السلام من أن الله يثيب الوالدين على مشاعر الرحمة، و التلهف على الطفل ، وعلى الإحسان إليه[1]. ولكأن ما أكرم الله به الأم من ثواب على واجب الرعاية فيه مراعاة لحال من لا تجد في قلبها إحساس الأمومة الخاص، فلعلّ الوعد بالثواب هو رسالة ربّانية لاستشعار القرب من الله ونحن نرعى صغارنا، فيعيننا ذلك على غربة مشاعرنا.

وبعد عشر سنوات من ولادة آمنة ، وفي ورشة عن رحلة الأمومة ( سبتمبر/ 2023م) ، عرفت أمهات خضن تجربة شعورية قريبة من تجربتي. كنت قد وصلت لاستنتاج ألهمتني إياه تجربتي، أن الأمومة تجربة ذاتية من حيث إن لكل أم طريقتها التربوية الخاصّة، وليس لأحد أن يحاكم أمّا على طريقتها في التربية، لكن لم أتوقّع أن  ذاتية التجربة تمتد إلى المشاعر، وأن مشاعري ليست نشازا ، وأن التجربة الشعورية للأمهات مختلفة، لقد ربتت هذه المعلومة على روحي، وداوت شعورا خفيا بالاغتراب.

أشباح الأمومة

            تأخرت أعواما قبل أن أقرأ كتاب إيمان مرسال : " كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها "، لقد أخافني حديث قرّاء الكتاب عن عدم نمطيته من حيث إنه يلقي الضوء على الجوانب المظلمة المتعلقة بالأمومة، كنت أريد أن أقرأ نصوصا يلتئم بها إحساسي بالاغتراب، كنت عقلا مؤمنة برسالتي كأم، لكني في أعماقي أشعر أن الأمومة تبتلعني، وأني أود الهرب ليس خوفا من المسؤولية فحسب، لكن رفضا لإحساس أني محاصرة في دور الأم، كنت أستيقظ يوميا مثقلة بهذا الشعور الذي أبوح به الآن لأول مرة ، فلمّا قرأت عن كتاب إيمان مرسال عزمت على عدم قراءته، ولم أفعل إلا بعد وقتٍ من تصالحي مع مشاعري كأم .

            قرأت العام الماضي كتاب إيمان مرسال ، فوجدت تجربة ذاتية جديرة بالتوثيق؛ لأنها تسهم في تغيير الصورة النمطية عن الأمومة، وهذا التغيير مهم لتواصل منصف ورحيم مع الأمهات. هل كان خوفي من قراءة الكتاب أيامها في محله ؟ أظن ذلك. لكن ربما الأمر لا يكون كذلك مع غيري ، فالتفاعل مع النصوص ذاتي هو الآخر.

            ثم وجدت نصّا يقارب تجربتي الشعورية لكنه أشد وطأة، ولكأن النصوص تزورنا في الوقت الذي نكون فيه مستعدّين لاستقبالها ، النص من رواية :"رغبة قوية للعيش": " قالت: أخيرا رزقت بولد، الأمنية التي طالما راودتني، ومع ذلك كنت أشعر بالحزن. عندما تعرّفنا أنا وماركو إلى بعض كنّا نقوم بالعمل نفسه، ونتمتّع بالمكانة ذاتها. ثم بدأ مشواري مع الحمل ، ووجدت نفسي خارج الملعب. كنت أظن أنني سأكون سعيدة حين أصبح أمّا، وأن البقاء في البيت مع طفلي سيكون شيئا جميلا. ولكن تبيّن أن الأمر لم يكن على هذا النحو. سعدت بالوقت الذي قضيته معه، ولكن في نهاية الأمر أصبحت عصبية. في تلك الفترة كنت أشعر بأني لم أعد موجودة. تعاستي جعلتني أشعر بالذنب، لم أعد أعرف ما الذي يجري داخل رأسي . كنت أعتبر نفسي أمّا متشائمة. فقدت الإحساس بما حولي، وهذا كان يزيد تعاستي. كنت أنوء تحت ثقل الشعور بالذنب وعدم الإحساس بالأمان."[2].

أم وأكثر

            الصورة النمطية للأم ، تجعلها ممتلئة بدور الأمومة، دون اعتراف بنسبية هذا الامتلاء. وهذه الصورة متصلة أصالة بطبيعة الحياة الاجتماعية قديما، والتي تلازم المرأة فيها المنزل غالبا. ما يغيب عن هذه الصورة أن حياة المرأة كانت مزدحمة بأعباء التربية، مع العمل في المنزل، مع علاقات وثيقة مع الجارات والأرحام، وكل ذلك في سياق يحاصر حظ المرأة في سعة التعلم، وتنوع المشاركة العملية المجتمعية.

لقد كانت الأم قديما تمارس أدوارا أخرى ترافق دورها كأم، فهي الزوجة، والجارة، والقريبة ضمن الأسرة الممتدة، وهذه الأدوار تساعد الأم على التوازن وفقا للسياق الاجتماعي آنذاك .

            إذن لم تكن الأمومة هي الدور الوحيد، وكانت ممارسة المرأة لبقية الأدوار- في ذلك السياق- تساعدها على أن تؤدي دورها كأم دون إحساس بأنها محاصرة في دور واحد.

            وفي عصرنا الحالي ، ومع تمكين المرأة من بقية حقوقها الإنسانية والشرعية، اتسعت حاجاتها النفسية تبعا للسياق الحضاري الجديد، ومن ذلك حاجتها للارتقاء العلمي والثقافي والمهني في بيئة تدعم أمومتها.

فالحديث عن أن دور الأم يغني عن بقية الأدوار هو حديث يغفل عن واقع الإنسان، وطبيعته النفسية، وأنه كائن متعدد الأدوار اجتماعيا، وأن هذه الأدوار تتنوع باختلاف السياق الحضاري.

            يقول بعضهم :التربية هي واجب الأم شرعا؛ لذلك فلا بد لها من الاستغناء بالأمومة عن أي دور آخر. وقولهم هذا  لا يُسلّم لهم؛ لأن ذلك لا يلزم منه تغييبها عن بقية الأدوار ، فضلا عن كون التربية عند الشافعية فرض كفاية على الأبوين معا[3]، فهي مسؤوليتهما المشتركة.

            احترام الحاجات النفسية للأم، ومساعدتها على تلبيتها،  يرفد أمومتها، وينضج علاقتها بنفسها وبطفلها، فهو عامل ثراء لا نقصان.

            ليس من عملي في هذا المقال مناقشة صعوبات تعدد الأدوار بالنسبة للأم في الجانب المهني تحديدا، وأن عمل المرأة يكون عامل استقرار إن وُفّرت لها تنظيميا أسباب الموازنة بين واجبات الأمومة  -لا سيما في السنوات السبع الأولى- وبين تطورها المهني. لكن لا بد من التنويه، على أن غياب التشريعات والإجراءات التنظيمية التي تساعد المرأة على الموازنة بين دورها كأم وبين حقها في العمل خارج المنزل، لا يحجب حقها في أن توازن أولوياتها بما لا يضيّعها نفسيّا أو ماديّا، سواء كانت زوجة أو مطلّقة أو أرملة.

أطفالنا ليسوا روبوتات

            اضطرت صديقة لي إلى أن تقلل وقت زيارتها لأهلها لسنوات إلى الحد الأدنى حماية لأحد طفليها من مقارنته الدائمة بأخيه الذي حباه الله بطبع هادئ واهتمامات رائقة. واضطرت أخرى إلى أن تصطدم ببعض أهلها لتوقف انتقاداتهم لطريقتها في تربية طفلها؛ لأنها لا توافق رؤيتهم.

            تدرك الأم الواعية أن التربية ليس لها نموذج إرشادي تفصيلي موحّد، وأن أسلوبها التربوي ينبغي أن يتنوع بحسب طبيعة طفلها نفسية ومزاجا وإدراكا، لكن بعض الإشكال هو أنها تصطدم غالبا بانتقادات خارجية تحاكم تربيتها لنمط تربوي جامد، وهذا يتطلب منها شجاعة، وحكمة، ووضوحًا تامّا في الرؤية يعطي الأولوية لحق طفلها في أن يُعامل بما يلائم طبيعته.

 

رحلتنا التربوية كأمهات – وكآباء أيضا- هي رحلة خاصة، وأول ما يفسدها إملاءات ذاكرتنا التربوية النمطية، ثم الإملاءات الخارجية، وحمايتنا من أن نقع في فخ النمط التربوي الجامد تكون بالمراجعة المستمرة لقيمنا التربوية، والتثقيف المتجدد، وخلق بيئة صحية لمداولة خبراتنا التربوية ولو كانت هذه البيئة تتمثل في إنسان واحد.

شغف معرفي

            جادلتني ابنتي مرة في قرار ما، كانت مجادلتها بارعة استفزت في داخلي خوفي من عدم الإنصاف، لكن أنقذتني فكرة أن التربية هي عملية اجتهادية، وأني ما دمت مقتنعة بترجيحي         فلا بد لها أن تحترم قناعتي هذه. شرحت لابنتي هذه القاعدة، وكسبت بمناقشتها لذة معرفية، وإضافة منهجية مهمة لطريقة تفكير ابنتي.

لم يقل لي أحد من قبل إن تجربة التربية ستغذّي بين حين وحين شغفي المعرفي. مساحات التفكير في اتخاذ القرارات التربوية هي مساحات واسعة ومتجددة، تتطلب من الأم        – والأب – ملاحظة دائمة لشخصية الطفل، ونفسيته، وطريقة تفكيره، وتفاعله مع محيطه الإنساني والمادي، ثم محاولة أن تقترب من أفضل طريقة للتعامل مع الطفل لمساعدته على النمو الآمن نفسيا.

تغذية الشغف المعرفي لا يتصل فحسب بحاجة الأم إلى القراءة والاستشارة، لكن تمتد إلى عملية التفكير نفسها، والترجيح بين الطرق المتعددة للوصول لأقرب وسيلة تلائم مبتغاها.

الصورة النمطية عن الأمومة تغيب عنها أن التربية تحتاج إلى رشد عقلي ونفسي، وأن هذا الرشد يجدد عقل الأم وقلبها أيضا.

مساحة ضرورية للخطأ

            روّجت الدراما العربية لسنوات لصورة نمطية للأم الجيدة بأنها الأم التي لا تخطئ، إشكالية هذه الصورة رغم أننا تجاوزناها فكريا في أن كثيرا منّا لا زال حبيسا لها ثقافيا، وأنا منهم.

            أعلم عقلا أن الخطأ التربوي هو عامل ثراء لشخصية الطفل؛ لأنه يحميه من وهم أن الخطأ يصم صاحبه بما يتصل بذلك من اضطرابات روحية ونفسية؛ ولأنه فرصة لتعلّم الطفل مهارات جديدة تتعلق بضبط النفس، والتعامل مع المواقف الصعبة؛ ولأنه فرصة مهمة لتواصل عميق مع الطفل ، يتعلم معه الطفل عمليا فضيلة أن يعتذر المخطئ مهما بلغت منزلته، وينشأ في ظلاله تقارب نفسي بينه وبين والديه عندما يشهد محاولاتهما للإصلاح، وفوق ذلك كلّه فإن الدماغ عضو مرن، تمحو الحسنة عنده السيئة إن ثبت المربي على أن يكون غالب تصرّفه مع طفله "جيدا"[4]. ورغم كل ذلك، لا زلت أتحرّج لو أخطأت في حق طفلتي أمام الآخرين، فضلا عن حرجي إن أخطأت طفلتي في تصرّف رغم إدراكي أنها في طور التعلم والتربية وليس من حق أحد محاكمتي أو وصمها.

            تحررت الدراما العربية من تقديم الأم في صورة مثالية ساذجة، وركّزت على التفاعل الناضج بين الأم وأبنائها، نجد ذلك في "البحث عن علا"،  وفي: " بينّا ميعاد" ، وفي :" كامل العدد"، وفي :" ليه لأ" الموسم الأول. وأظن أن أعمالا كهذه ستساعد على بناء ثقافة جديدة تحترم مساحات الخطأ في العلاقة الوالدية.

 

            رحلة الأمومة رحلة ذاتية من جهة، وتفاعلية من جهة ليس فقط مع الأبناء لكن مع الزوج والعائلة ، وهذه الرحلة يظلمها التنميط، بل إن ازدهارها في اختلافها واحترام رحابتها.

                                                                                   

*نشرت المقالة في منصة المنور الثقافية / رمضان 1445هـ الموافق 14 مارس 2024م                                                                                

 


 

 

 

 

           

           

 

 

 



[1] قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، العز بن عبد السلام، تحقيق : د. نزيه كمال حمّاد و د. عثمان جمعة ضميرية، الطبعة الثانية، دار القلم ، دمشق 2007م. مج1/ ص37.

 

[2] رغبة قويّة في العيش، فابيو فولو، ترجمة: نزار آغري، نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق ، 2021م.

[3] حاشية إعانة الطالبين على فتح المعين، السيد البكري، دار الفكر، بيروت 1993م.  مج1/ ص 33.

[4] تربية خالية من الدراما، د. دانيال جي. سيجيل ود. تينا باين بريسون، ترجمة مكتبة جرير، السعودية 2023م. 

 

عن مذكرات تشاندلر ( أصدقاء وعشّاق والشيء الرهيب)

 

يقول مؤلف الكتاب ماثيو بيري ( تشاندلر)  أنه عندما يموت يريد أن يكون مسلسل فريندز هو في أسفل إنجازاته ، ويبدو أنه نجح في تحقيق ذلك وفقا لما حكى عنه من مساعدته المعنوية والمادية لمدمنين كثر على التعافي، وهذا الكتاب هو إنجاز آخر لكن بابه عندي هو " فريندز".

لم يكن عنوان الكتاب ليشدني إلى قراءته لولا أن مؤلفه هو " تشاندلر" إحدى الشخصيات الرئيسية في مسلسل " فريندز"، هذا المسلسل الذكي  في معالجة أطياف من ارتباكات النفس والعلاقات، قلت لنفسي : لا بد أن يكون لديه شيئا ذكيّا ليقوله، وقد كان .

الكتاب هو سيرة نفسية، يحدثنا فيها المؤلف عن البواعث النفسية لمواقفه، حديث إنسان مثقف نفسيّا وبصير معا. لقد كشف لنا تشاندلر جروحه النفسية الداخلية وأثرها على تصرّفاته. لم يكن ماثيو بيري يكشف عن ضعفه أمام الآخرين إلا عندما يكون مضطرّا اضطرارا قاسيا، وما فعله في الكتاب هو شجاعة.

أكثر ثلاث أفكار وقفت عندها في الكتاب هي:

الفكرة الأولى:

 يجب أن نكون كآباء يقظين لما يمكن أن يؤذي أطفالنا نفسيا، وذلك بالتنبّه إلى أن لكل طفل نفسيته الخاصّة، وأن التعامل مع الخصوصية النفسية لكل طفل بوعي واحترام وحب        لا ينبغي أن نهمله أبدا. الوالدية رحلة يقظة ومحاولة مستمرة لنعطي أطفالنا حقهم في تربية جيدة، ومما يساعد على ذلك أن نؤسس لعلاقة مع أطفالنا مبناها خمسة أركان: الحب، والاحترام، والمساندة، والرفقة ، والحوار. الحوار الذي يعلّمنا عن أطفالنا ما قد يغيب عنّا. وهذا كله يحتاج يقظة وحضور واهتمام متجدد.

من أكثر المواقف التي آذت ماثيو بيري في طفولته أنه تُرك ليسافر وحده في الطائرة في سن الخامسة، لقد ظل الشعور بعدم الأمان، وأنه ليس مهمّا بما يكفي ، يرافقه طيلة حياته، وكان هذا الموقف كثقب أسود في روحه يبتلع أي إحساس بالتوازن. لقد هيّأ له والداه سفرا مريحا، ولم يتعرّض لأي موقف مؤذ في المطار أو الطائرة لكن أحدا لم يتنبه إلى أنه خائف، وهو لم يتعوّد على أن يحكي عن مشاعره، وظل هذا الموقف يمثل جوعه إلى الشعور بالأمان والاهتمام عمره كله. في آخر الكتاب يؤكد تشاندلر على أنه لا يلوم والديه وأنهما بذلا وسعهما في رعايته بحسب ظروفهما. ليس الكتاب رسالة لوم وإنما هو رسالة توعية .

 

الفكرة الثانية :

            عبر قصص الحب الكثيرة التي خاضها، وفشل هذه القصص؛ لأنه اختار أن ينهيها- ما عدا قصة واحدة كان لها سياقها الخاص- يوصل لنا ماثيو بيري أن كثيرا ممن يُظهرون لنا الصلابة، وعدم الاكتراث للمشاعر الحقيقية، وعدم الحرص على تواصل صحّي ومثمر، قد يكون بداخلهم ألم عميق، وعدم شعور بالأمان ، وجرح غير مندمل.

 

 

لقد جمعت ماثيو بيري قصة حب مميزة بجوليا روبرتس، وتحدّث ماثيو عن ذكاء جوليا وثقافتها وجمالها الداخلي وطريقة حبها له التي أسرته ، لكنه مع ذلك أنهى علاقته بها وبدون أن يذكر لها سبب قراره . يقول ماثيو: " مواعدة جوليا روبرتس كانت تضغطني، كنت متأكدا دوما أنها ستنفصل عني، ولماذا لا تفعل ذلك؟ لم أكن كافيا لها، لا يمكنني أن أصبح كافيا لها، كنت مجروحا، وضعيفا، وغير محبوب.(هذه صورته عن نفسه رغم نجاحه الباهر) . لذا بدلا من مواجهة قدري الأليم معها بأنني سأخسرها، انفصلت عن الجميلة والرائعة جوليا روبرتس. ربما فكرت أنها ستشعر بوضع أقل من وضعها ، مع نجم تلفزيون ( يقصد نفسه). لكن نجم التلفزيون هذا انفصل عنها الآن. لا أستطيع أن أصف ملامح الحيرة التي اعتلت وجهها" .

يحكي لنا ماثيو أنه في كل علاقة ممتازة يكون خائفا من أن الطرف الآخر لو تعرّف عليه بشكل أقرب فإنه سيكتشف أنه هش وضعيف من الداخل؛ ولذلك كان يبادر إلى هجر من يحبهم لأن في داخله يقين أنهم سيفعلون ذلك إن لم يسبقهم إليه.

            لقد عاش ماثيو إلى الثانية والخمسين من عمره وهو وحيد، وقد كان حلمه أن يتزوج ويكون له أطفال، لكن خوفه من الهجر حال بينه وبين ذلك. 

            وفقا لكتاب :" متعلّق" فماثيو نموذج للشخصية التجنبيّة، وهذه الشخصية تفزعها الحميمية. تألمت أن ماثيو بيري لم يستطع رغم وعيه النفسي أن ينجح في تجاوز شعوره الداخلي بعدم الكفاية وعدم الأمان وربما يكون إدمانه للخمر ( وهو الذي سمّاه الشيء الرهيب)  رغم محاولاته المستمرة للتعافي، هو السبب الذي حال بينه وبين النجاة.

الفكرة الثالثة:

            حديث ماثيو بيري عن أن الإدمان مرض صبور ، هكذا وصفه بأنه :" صبور" ، وهذا الوصف استوقفني ، ووجدت أن أي عادة غير محبّبة يُبتلى بها أحدنا ستكون كذلك ، وأن الموفق من غلب صبره صبر إدمانه أيّا كان الأمر الذي ابتلي بإدمانه.

 

            مات ماثيو بيري في أكتوبر 2023م بعد عامين من تأليف كتابه، وأزعم أنه قدّم للقارىء مادّة تضيف لوعيه النفسي ولإنسانيته، وتؤكد على فكرة مهمة تغيب عن كثيرين وهي غباء القسوة ، وأن الرحماء هم الحكماء.

            الكتاب نشرته دار لغة، وهي دار مصرية، في أكتوبر 2023م،  و قامت بترجمته: مريم عاشور.