الجمعة، 8 يناير 2016

مقالاتي القديمة 6 : الزواج السري .. إشكالات المنهج والواقع .

                    


اطلعت على ملف الزواج السري على "إسلام أون لاين.نت"، وذكرني ذلك باستشارة قديمة وردت إليّ من إحدى الأخوات عن مدى صحة تقليد مذهب الإمام مالك في عدم الإشهاد على عقد الزواج، والدخول وفقا للعقد، وكان جوابي لها بعد مراجعة مذهب المالكية، أن المالكية يشترطون إشهار الدخول، وأن العقد بلا إشهاد لا يبيح الدخول وفقا لمذهب الإمام مالك.


رسالة هذه الأخت جعلتني أقف مع مشكلة النقل دون تثبت عن المذاهب الفقهية من بعض الناس، فيقعوا في المحظور، لكن هذا ليس الإشكال الوحيد في هذا الأمر، الإشكال هنا في تقديري مرتبط بالمنهج الذي نقرأ به تعدد الصور المختلف فيها في الزواج، وكذا في تطبيقات هذا المنهج، ومدى تحقيقها لمقاصد الشرع، واتساقها مع قواعده في التعاطي مع الواقع.


صور (الزواج) السري، وهنا أؤكد على كلمة (الزواج)؛ لأني أعني بها ما صح اعتباره عند أهل الفقه، هذه الصور لها مساحة من النظر الفقهي، اختلف في حلها أو صحتها فقهاء السنة والشيعة، هناك طرحان متوازيان في هذه القضية تطوف حولهما مجموعة من التساؤلات تحتاج إلى تحرير من أهل التحقيق الشرعي والاجتماعي والنفسي.


الطرح الأول

الطرح الأول يمايز بين الصور التي وردت للزواج غير التقليدي، ويجعل القول بإباحتها مرتبطا بنظر الفقيه، والذي بدوره لا بد له من استشارة متخصصين اجتماعيين ونفسيين، وهذا الطرح له وجاهته الشرعية والاجتماعية والنفسية؛ إذ إنه يضع نصب عينيه حماية العلاقات الاجتماعية من الفوضى، وصيانة الأفراد من أن تعصف بهم رياح الأهواء، فيصبح التحلل من المسئوليات التي تستلزمها العلاقات الأسرية سببا في دمار الفرد والأسرة.
يقول د.بيرم كرسو في كتابه "سكينة الروح": "يبدو الكون لنا في أغلب الأحيان كبيرا جدا. نحن نتوق لملاذ آمن، لانتماء محدد الأبعاد. هذا الإحساس بالانتماء إلى شيء محدد يحمينا من الشعور باللامتناهي في داخلنا، وهو الإحساس الذي يحمله كل منا بصمت، والذي نشعر به أحيانا بصورة هاوية لا قرار لها. عندما ننتمي إلى مجموعة ما، فإنها تتحول إلى شاطئ الأمان الذي نرسو فيه ليحمينا من التهديد الغامض الذي يمثله اللامتناهي الكامن في داخلنا، وفي العالم الخارجي من حولنا... في كتاب  Escape From Freedom، يعتبر إيريك فروم الهروب من الحرية بمثابة العلاج للقلق الوجودي ولـ(سعينا بحثا عن المجموعة)

نجد في هذا النص (النفسيتقريرا لضريبة الخروج عن النسق المجتمعي المقبول، وليس هذا هو البعد الوحيد الذي ينظر إليه عند مناقشة من يفكرون في الإقبال على خيارات متفردة قد يجدون لها سندا شرعيا، لكن هناك بعد آخر يتعلق بمنظومة القيم الأسرية التي تجعل الحقوق المتبادلة في المراعاة والتقدير والمشاركة في صناعة الحياة، كل هذه المنظومة تستحق من الفرد الوقوف عندها، والتفكير مليا قبل تجاوزها.


حاجة الفرد وحاجة المجتمع هل هما متناقضتان أم متكاملتان؟

 القول بالتناقض يعزل روافد مهمة  في سكينة الفرد واستقراره وتناغمه مع ذاته ومجتمعه، هذه الروافد هي الفضائل الأخلاقية؛ فضائل التصبر والتعفف والهمة وكف النفس عما يخرم المروءة، والحذر من السقوط في هاوية التنازلات غير المحسوبة. وهذه الفضائل بمجموعها مطلوبة، وخلو الحياة منها قد يفسد علاقة الإنسان مع نفسه ومع ذوي الحقوق عليه.


لكن تبقى الإشكالات المتعلقة بهذا الطرح من حيث عدم قطعيته، وبالتالي يبقى خرق بعض الأفراد له بناء على قناعاتهم بتعدد الخيارات الشرعية من جهة، وحقهم في تشكيل حياتهم بما يرونه مناسبا ما دام له سند شرعيا قال به بعض أهل العلم.


وكذا التوقف في أهلية كثير من المتصدرين للفقه والفتوى لتناول مثل هذه الحالات، بحيث يكون جعل الأمر بأيديهم سببا في هدر حقوق الأفراد لحساب الاعتبارات المجتمعية.


الطرح الثاني


والطرح الثاني الموازي هو جعل الأمر حقا خالصا للفرد يقدّر فيه حاجته، ويزن المصالح والمفاسد بحسب ما يراه، ولعل الرؤية الفقهية الحاكمة لهذا الطرح هي تقرير المسئولية الفردية كاملة، وجعلها مقدمة على الاعتبارات المجتمعية، ولكن يرد عليها سؤالان:


أحدهما: ما محل الفضائل المندوبة وتحقيق المجتمع بكمالاتها في هذا الطرح؟ وما معنى دعوة القرآن إلى الصبر والتعفف إذا كان الأمر متاحا لهذا الحد؟ أم أن سياق الدعوة القرآنية إلى الصبر والتعفف هو سياق مرتبط بحال حرص الطرفين أو أحدهما على الالتزام بالاعتبارات المجتمعية؟


والسؤال الثاني: هل هذا الطرح ليكون مسددا يحتاج إلى خدمته عبر خلق تعديل ثوري -إن صح التعبير- في القناعات المجتمعية حول كون العلاقة الزوجية هي شأن خاص يقرره الزوجان، وليس لمن حولهما سوى المباركة على اختيارهما؟ وما مدى واقعية ذلك في ظل مقصد الحفاظ على التماسك الأسري، نظرا لطبيعة الأدوار الاجتماعية، وما تستلزمه من تنازلات، وحلول وسط؟


وهل اختيار مثل هذا المنحى ملائما في ظل وجدان جمعي يرفض الاعتراف بما سوى الزواج بصورته المكتملة مجتمعيا، مما سيكون له تأثيره على القناعات الحقيقية باحترام كل طرف لنفسه وللطرف الآخر حال ممارسة الزواج السري؟


وبعد؟


كيف يمكن حسم كل الإشكالات السابقة في طرح جديد موازن، يراعي أن التراث الفقهي صار مشاعا بين الناس، كما يراعي مقاصد الشريعة في تحقيق مصالح الناس، ويقدم صيغة تناسب كافة الاحتياجات الفردية والمجتمعية، ناظرا إلى اختلاف طبيعة الفرد والمجتمع في هذا العصر عما سبقه؟

لست أملك الحل، وسطوري هذه دعوة إلى النهضة إليه.. والله المستعان.
                                       

نشرت في أون إسلام : 5/ مايو/2008


مقالاتي القديمة 5: الحجاب أم الطلاق .. قراءة في فقه المقاصد


" نعم للحجاب وإن أدى للطلاق" هذا ما عنونت به إحدى الاستشارات في موقع إسلام أون لاين، وقد كتبت إلى المسئول عن الصفحة أن العنوان غير سديد في رأيي، ولا يصح إطلاق مثل هذه العبارات.. وقد كنت سأكتفي بذلك، إلا أني خطر لي أن مناقشة هذه الفكرة أمر مهم، لتعم الفائدة بتوفيقه تعالى

"كم هي مسائل حياتنا معقدة".. كثيرا ما نتداول هذه العبارة، لكن بحس اجتماعي بحت إن صح التعبير، بمعنى أن إدراكنا لطبيعة حياتنا المعقدة لا يرتبط بإدراكنا بالدين، الذي أراد الله أن تكون أحكامه تجري على اليسر، وعدم الحرج، وتكون ملائمة لطبيعة الحياة المعقدة التي نحياها، لكن هذا عندنا مستقل عن الشرع، في كثير من الأحيان؛ لأن كثيرا من الناس يظنون أن هناك مسائل فقهية لها حكم شرعي واحد فقط مهما تنوعت حالة الإنسان.





فلنأخذ حكم الكذب مثالا، فخلافا لما هو سائد عند عامة الناس يذكر لنا العلماء أن الكذب يكون محمودا في حالات معينة، مثلا الكذب لأجل حماية إنسان بريء من بطش آخر ظالم مستبد، أو الكذب لحماية أسرار ائتمننا آخر عليها ولا مصلحة في إفشائها، وترد هنا تفصيلات عن العلماء في إمكانية اللعب بالألفاظ إن أمكن بحيث لا يكون المرء كاذبا باعتبار اللفظ، فتكون عباراته محتملة لأكثر من معنى، ويسمون ذلك تعريضا، ويقولون: في المعاريض مندوحة عن الكذب، أي في التعريض ما يغني عن الكذب.


نستنتج من ذلك أن الكذب ليس قبيحا مطلقا، إنما هو قبيح في حالات وحسن في حالات أخرى هكذا يعلمنا الشرع الحكيم، والعميق، والملائم لتعقيدات حياة الناس.
الإمام الشاطبي يحدثنا عن هذا المعنى في الموافقات في كلامه عن اقتضاء الأدلة للأحكام (الموافقات ج3/ ص71 الطبعة التي شرحها الشيخ عبد الله دراز، وعنى بها الشيخ إبراهيم رمضان / دار المعرفة بيروت لبنان)، فيذكر لنا أن الحكم الشرعي له حالتان:
إحداهما: يكون فيها خالصا من أمور أخرى ترتبط به.
والثانية: يكون مرتبطا بأمور أخرى.


ففي المثال الذي قدمت به المقالة، فإن حكم الكذب أصالة هو التحريم، لكن إذا ارتبطت به أمور أخرى مثل أن يؤدي الصدق إلى إيقاع الظلم بإنسان بريء، فالكذب هنا مطلوب، بل واجب، وهكذا يتغير حكم الكذب من التحريم إلى الوجوب؛ بسبب الأمور التي ارتبطت بالحالة الفردية.


إذن هناك أحكام مطلقة، مثل أن نقول إن الكذب حرام، لكن هذه الأحكام قد ترتبط بها أمور خارجية تجعلها تتغير بحسب ما ترتبط به.. هذه الأمور الخارجية تتنوع باختلاف الحالات الإنسانية، وطبيعة التعقيدات النفسية والاجتماعية التي ترتبط بها؛ لذلك فإن الحديث عن الحكم الشرعي في مسألة ما، هو أمر معقد، ومركب وليس بسيطا أبدا؛ لأن طبيعة الحياة كما نعرف معقدة.


وكما رأينا في المثال الذي قدمته فإن الكذب الذي هو أمر يعد معرفة تحريمه من الواضحات عند الناس، ليس الحديث عن حكمه بسيطا كما قد يظن؛ لأنه يرتبط بحالة الإنسان.

وهكذا فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدا عندما نتجاوز الكلام عن حكم واحد إلى أن نربط بين حكمين شرعيين، فنقول مثلا: "نعم للحجاب، وإن أدى إلى الطلاق"، هنا وقعنا في قضية مركبة جدا، أعطيت عنوانا عاما، فليس الحديث عن الحجاب وحده، ولكن تم ربط الحجاب بالطلاق، وتمت صياغة العبارة في صورة قاعدة كلية مثل قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار" مثلا، مع كون المسألة فقهيا جزئية تندرج تحت قاعدة كلية هي أنه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".


إن إطلاق مثل هذه العبارات يرسخ لدى غير المتخصص فهما ظاهريا، يصعب عليهم معه أن يفهموا حديث العلماء عن مراعاة القواعد العامة القطعية، والتوفيق بينها، لئلا يضرب بعضها بعضا.


ودعونا نأخذ هذه الاستشارة وعنوانها كمثال؛ لأهمية أن ندرك خطورة تساهلنا في إطلاق الأحكام الشرعية بناء على معلوماتنا العامة في الشريعة، دون نظر إلى الطبيعة المركبة لهذه الأحكام، تبعا للطبيعة المركبة لحياتنا، نفسيا واجتماعيا وماديا.


نحن دون أن نشعر نعطي لأنفسنا بذلك الحق في أن نفتي، وما هي الفتوى إلا إنزال الحكم الشرعي على الواقع، وربطه به؟!.

نفتي دون أن نعلم؛ لأن هناك أفكارًا ومعلومات عامة أخذناها منذ الصغر على أنها مسلمات، وهي كذلك فعلا، لكن في إطار معين، مثلا الكذب حرام، الحجاب فرض، الزواج مستحب، التعدد مباح، هكذا بشكل عام، لكن التفاصيل غالبا ما تجعل هذه الأحكام العامة تتغير، وحينها تنتقل هذه الأفكار التي نظنها بسيطة إلى أفكار معقدة، تحتاج إلى إدراك لمقاصد الشريعة، وترتيب المصالح والمفاسد فيها، وهذا ما يحتاج إلى عالم متأهل، لديه علم بالأحكام الجزئية، والمقاصد الشرعية معا، مع إدراك جيد لواقع الناس، واستماع جيد لكلام المستفتي، ليتبين حالته، ويبين له الحكم المرتبط بها، وفقا للمعطيات التي لديه.


في الاستشارة التي سنأخذها كنموذج، العنوان (نعم للحجاب وإن أدى إلى الطلاق) لا ارتباط مباشر لهذا العنوان باستشارة السائلة، فهي لم تذكر أن علاقتها بزوجها وصلت إلى طريق مسدود، وأن زوجها يجبرها على خلع الحجاب، غاية ما في الأمر هو وجود توتر في العلاقة؛ بسبب اختلاف في نمط حياتها كانت تمارسه، وهذا التوتر يمكن حله بمزيد من الحكمة، والمناقشة الهادئة، والدعاء أولا وأخيرا، فما الداعي إذن لذكر الطلاق هنا؟
فالعنوان بدا مصاغا بشكل يحرك مشاعر القارئ على حساب سداد المعنى، ولا أرى ذلك مهنيا على الإطلاق، فالموقع متخصص، والرسالة التي يوصلها ينبغي أن تحافظ على رصانتها، وتحافظ على المعادلة الصعبة.. الرصانة وجذب القارئ معا، دون إخلال بأحدهما، وإن اضطر الأمر لأحدهما فالرصانة لا بد أن تكون كفتها راجحة، هذا مهنيا، فكيف وقد ارتبط الأمر بإيصال الدين للناس؟


ما أناقشه في العنوان ليس فقط إدراج لفظ الطلاق برغم أنه لم يرد ذكره في استشارة السائلة، لكن هو إطلاق العبارة كقاعدة كلية كما تقدم بيانه.


وأود أن أطرح الصورة الأكثر حدية التي لم تطرحها السائلة؛ لتصب في قضية الجزئي والكلي في الأحكام الشرعية، والحكم الشرعي في حالته غير المرتبطة بعوامل خارجية، وفي حالته المعقدة، المرتبطة بعوامل متعددة، فلو ذكرت الزوجة أن زوجها ينهاها عن الحجاب، والأمر وصل لمفترق طرق بينهما، فهل يصح أن يؤخذ الأمر بمثل هذا التبسيط، ونقول لها "نعم للحجاب وإن أدى للطلاق"؟


وهنا لا بد من توضيح أمر مهم، هو أن الأحكام الشرعية رتبها العلماء وفقا لأهميتها في الشرع في مراتب، ووضعوها تحت مظلة ثلاثية، إن صح التعبير، هذه المظلة الثلاثية تشمل جميع الأحكام الشرعية الواجبة والمندوبة والمباحة والمحرمة والمكروهة، وهي متفاوتة أعلاها هي مرتبة الضروريات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات.
والفقيه حين يوازن بين المسائل والحوادث، لا بد له من معرفة مرتبة كل مسألة، أين تقع؟ هل هي في المرتبة الأولى (الضروريات) أم الثانية (الحاجيات) أم الثالثة (التحسينيات)؟ فلا نقدم ما هو في مرتبة التحسيني على ما هو في مرتبة الضروري.
\

وليس يعنينا الآن أن نشرح تفصيلا كل مرتبة من هذه المراتب؛ لأن هذا هو شأن المتخصص، ويطلب من مظانه، لكن سأذكر مثالا يوضح هذا الترتيب الذي تحدثت عنه: وضع العلماء إزالة النجاسة، وستر العورة في مرتبة التحسينيات، وهما واجبان، وإقامة الصلاة في مرتبة الضروريات، فلو كان المرء لا يجد ما يزيل به نجاسته، أو يستر به عورته، هل تسقط الصلاة عنه؟ قالوا لا، بل يصلي بالحال التي تتيسر له، ولا يترك الصلاة.
وفي مسألتنا هذه لو خير الزوج زوجته بين الحجاب واستمرار زواجهما، فالجواب لا يكون دون النظر في الحالة الخاصة التي طرأت، ولا يصح أن نعمم الحكم.


فهذه المسألة تتعلق بها قواعد كلية، ومقاصد شرعية تضبطها، فينظر في حال تلك المرأة، وما يترتب على انفصالها عن زوجها من مفاسد، على المستوى المادي، أو الاجتماعي، مثلا إذا كانت لا عائل لها، وستتضرر حياتها تضررا يوقعها في حرج شديد، فهل نقول لها: (نعم للحجاب وإن أدى إلى الطلاق)؟


ألا يكون هنا من طاعة الخالق أن تقدم ما فيه مفسدة أقل، وهو ترك الحجاب، على ما فيه مفسدة أعلى وهو اختلال نظام حياتها كما شرحت آنفا؟ فيتخلف عن قاعدة (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي نص الحديث الشريف، يتخلف عن هذه القاعدة بعض جزئياتها؛ لأنها اندرجت هنا تحت قاعدة كلية أخرى، وهي: (يرتكب أخف الضررين اتقاء لأشدهما)


إذ يخشى في مثل هذه الحال أن تضطرها الحاجة إلى تصرفات هي أعظم مفسدة من ترك الحجاب؛ فضلا عن كون التمسك بالحجاب إن أدى إلى انتقالها إلى حال تكون فيه في حرج شديد لشدة حاجتها، وتعثر حياتها، هو من باب التمسك بأمر تحسيني الذي هو ستر العورة في مقابل إهدار أمر حاجي وهو استقامة حياتها كما ذكرت في المثال.



وقد يقول قائل كيف يمكن للزوجة أن ترضى بتحكم الزوج في خياراتها، لا سيما أن الشرع هنا يدعمها تماما، وتخضع للزوج لمجرد حاجتها المادية إليه، في تصوري أن طرح المسألة بهذا الشكل أيضا يختزل اختلاف حالات الناس، وتنوع حاجاتهم، وطبيعتهم قوة وضعفا.


بل وإن كانت ماديا لا إشكال لديها، لكن بينهما أولاد يحتاجون إلى رعاية أمهم، والطلاق سيؤثر في تمام تلك الرعاية واستقامتها؛ لما تعلمه من تعنت زوجها أو قسوته أو عدم عنايته بولده كما يجب لهم، والطلاق سيجعله يحول بينها وبينهم، فيتعارض هنا حفظ لمقصد حاجي، وهو حفظ النسل مع مقصد تحسيني وهو الحجاب، فكيف نقدم هنا التحسيني -ستر العورة ويراجع في ذلك الموافقات للشاطبي– الذي هو المقصد الثالث في ترتيب المقاصد التي جاءت بها الشريعة على الحاجي، وهو المقصد الثاني في ترتيب المقاصد الشرعية؟ (ينظر مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور)، وكيف نقول في مثل هذه الحال: (نعم للحجاب وإن أدى إلى الطلاق)؟.

وقد فرق العلماء بين ما أوجبه الشرع لذاته، وبين ما أوجبه لأنه وسيلة لتحقيق واجب مقصود لذاته، (ذكر ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات ونقله الشيخ عبد الله بن بيه في كتابه –صناعة الفتوى وفقه الأقليات- عن الشيخ ابن تيمية)، فالحجاب وسيلة لتحقيق العفاف وحفظ النسل، وهي وسيلة واجبة، لكن هذا الوجوب هو في مرتبة أدنى من وجوب حفظ النفس من الوقوع في مفسدة الفقر الشديد أو الحاجة الشديدة، أو مفسدة ترك الأبناء بدون رعاية تربيهم التربية الصحيحة.


ويمكن مقاربة الحجاب، بالثياب المحتشمة السابغة، في مثل هذه الحال، لاسيما أن التعبير القرآني في قوله تعالى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] فيه مساحة واسعة يمكن من خلالها ضم القواعد الكلية بعضها إلى بعض بما يرفع الحرج، وليس الابتلاء بالإبداء الذي علل به الحنفية جواز إبداء الوجه والكفين والقدمين بأكثر حرجًا من ابتلاء المرأة بإفساد حياتها الزوجية في ظروف اجتماعية قاسية على ما بينت آنفا.
الفتوى في دين الله أمر خطير، وتقريرها يحتاج إلى متمكن من القواعد الكلية، والأدلة الجزئية معا، كما يقرر ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات، والإعلام صار وسيلة من وسائل نقل الفتوى، وينبغي أن يكون الإعلام المتخصص في هذه الأمور دقيقا في كل ما ينقله للناس، فهذا دين، والله تعالى سائلنا عنه.


مقالاتي القديمة 4: الحلال الفكري وارتباكات القيم

سمت حديثه الهدوء الشديد الذي يقترب من الخشوع، كان الدين هو محور حديثه مهما تشعب، فإذا ما تحدث عن الفضيلة تألقت عيناه ورق صوته، واتسعت ابتسامته، ولانت ملامحه".
هكذا وصفت لي صديقتي أحدهم، مضيفة: لكني دوما كنت أشعر بشيء من عدم الصدق في هذا الرجل، قلت لها: أختي تقول "المبالغة في الأدب كقلة الأدب؛ لأن كليهما خلل وزيف، بل ربما تكون قلة الأدب أكثر صدقا".
تابعت صديقتي: عرفته عبر مجموعة حوارية أسبوعية، وتبادلنا كمجموعة، أرقام الهواتف النقالة، وإذا برسالة منه بعد منتصف الليل، يقول فيها إنه في هذا الوقت يصلي صلاة القيام ويدعو لي! وهنا توقفت لفترة قصيرة قبل أن تستطرد قائلة: تعرفين؟ الأمر كله يتلخص في كلمة واحدة (الأصول)، الناس لم تعد تراعي (الأصول).
واقع مرتبك
حديث صديقتي وضعني على أول طريق التأمل في سلوكيات العلاقة بين الجنسين، فالقول بحل العلاقة في (المجال العام)، بلا خلوة ولا فحش من القول، يواجه ارتباكات قيمية كبيرة.. نحن أمام واقع مرتبك فعلا.. مرتبك من حيث إن هذه العلاقات فرضت نفسها في ظل سياقين متباينين: سياق لا يلقي للحكم الشرعي بالا، باعتبار أن الشرع حظر أي علاقة بين الجنسين مطلقا، عدا ما كان منها في إطار المحارم أو الزواج، وبالتالي يجنب الدين هنا؛ لأنه غير واقعي وغير ملائم للحياة المتجددة.
وسياق آخر منفتح على القول الأكثر سماحة في الدين، والأقرب إلى روح الشرع ومقاصده، من حل العلاقة بين الجنسين مطلقا ما دام ليس هناك خلوة ولا فحش، وهذا السياق الارتباكات فيه أنكى؛ لأن أصحابها يلتبس عليهم الحق بالباطل، وتغدو القيم مهدرة لديهم أو مشوشة.
فالدين لم يعد مرتبطا ارتباطا وثيقا بالخلق، مع أن الدين كله خلق، فما يزيد على المرء في الخلق يزيد عليه في الدين، كما يقول ابن القيم رحمه الله.
وهذه الارتباكات نجدها عند من اعتقدوا حل هذه العلاقات فكريا دون تهيئة قيمية ومجتمعية، بل نجد في بعض الخطابات الدينية تشنيعا على التمسك بالعادات، هكذا إجمالا، برغم أن العادات فيها الحسن الذي يؤصل ويربي على مكارم الأخلاق، والذي يؤدي إهداره إلى فساد الدين والمجتمع.
وإذا كان الإسلام يبيح العلاقة المتزنة، التي لا تنطع فيها في المجال العام، فإنه بذات القدر يؤكد على الثبات على هذا القدر وعدم تجاوزه، ويضبط ذلك العرف السليم، الذي يخلق رقابة مجتمعية متزنة.
غياب العرف المجتمعي
لكن أين هذا العرف في مجتمعنا اليوم؟ فالمجتمع تربى غالب أفراده على الحظر، وعلى ذلك يكون انتقال المجتمع إلى الحل هو انتقال فكري لا قيمي.. فأين هي المرجعية المجتمعية (العرفية) لمثل هذه العلاقات؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة.
كيف نستفيد من سلاسة العلاقات في المجتمع الحجازي القديم؟ من يرفع الغبار من علماء الاجتماع عن قيم مجتمعنا آنذاك لنستعيدها اليوم؟ وكيف يمكن أن نستفيد من التجارب العربية في هذا المجال؟
أحيانا تقدم المسلسلات المصرية نموذجا جيدا للقيم الأصيلة التي تضبط العلاقة بين الجنسين، برغم الخلل الموجود فعليًا في واقع تلك العلاقات في المجتمع المصري.
ارتباكات الواقع الافتراضي
فإذا أضيف إلى الواقع الحقيقي المرتبك قيميًا، واقعا افتراضيا عبر شبكة الإنترنت، كان من البديهي أن نجد الارتباكات هنا أشد ظهورا، فمفهوم الخلوة هنا ارتفع، إذ لا خلوة حقيقية –وهذا ينبغي إعادة النظر في حكمه الشرعي– مع أن الحديث يمكن أن يتم في ساعات متأخرة من الليل أو مبكرة من الصباح، فترتفع الكلفة، لتقترب الألفة بين المتحادثين، وتخرج الأحاديث عن السياقات الجادة إلى الكثير من اللغو.
وفي مثل هذا الجو، قد لا يجد الرجل حرجا في وعد بالزواج، يتراجع عنه فيما بعد؛ لأنه ببساطة كان صادرًا في ظل سحر خاص لم يألفه، جعله يقول كلاما لم يحسن النظر في عاقبته.
وفي تجربة مماثلة، قالت لي إحدى صديقاتي: هو إنسان متدين، وداعية محترم، وقد وعدني صراحة بالزواج.. قلت لها: متى؟ وكيف؟ قالت: في محادثة ليلية طالت على الشات. قلت لها: إذن انتظري أن ينقض كلامه بعد أيام. وقد كان.
يقول الله عز وجل: "وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ" (يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ. قال ابن عباس: من الوعد والإخلاف) [البقرة :235].
بين الفكر والقيمة
فإذا كان الحال اليوم أن يكون الدين فكرا لا قيما، ولم يعد للعرف المجتمعي قيمة، لأنه في طور تخلخل وغفلة عن وجوب تشكله راسخا أصيلا، كان مثل هذا السلوك وسواه لا يعد جريمة ولا انتهاكا للفضيلة.
وفي السياق ذاته نجد من يتزوج معددا بحجة أن الشرع أباح له ذلك، مهدرا قيما تتراوح بين الوجوب والندب، فهو يحرم عليه التعدد شرعا إن كان يعلم من نفسه عجزا عن العدل، كما يكون التعدد أصالة بحقه غير مستحب لأنه يضيف على نفسه حقوقا جديدة قد لا يؤديها، ومسئوليات سيسأله الله عز وجل عنها، وسيحاسبه عليها.
كما أنه يهدر بذلك قيما مهمة إذا ما كان تكراره الزواج ترفا، فيهدر قيم الوفاء والصبر والإحسان، وهي قيم غابت عن الحس الديني، وأكد غيابها عدم الالتفات للعرف المجتمعي الأصيل في حسن المعاشرة.
وليس الرجل فقط هو المتهم هنا كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ، بل لكل واحد من الجنسين نصيبه من الارتباكات القيمية في مجتمعنا، ولا بد من تضافر علماء الاجتماع مع علماء الشريعة المحققين لتبيان (أصول) العلاقات الإنسانية في مجتمعاتنا، وأن يسهم في ذلك كل ذي عقل وقلب يقظ.
ما سبق لن يكون مع التشنيع على الكتابات التي تقدم توصيفا للواقع، بل الاستفادة منها، بما يساعد على خلق توجه جمعي لصياغة قيم معتدلة.


مقالاتي القديمة 3: ستر المغتصبات .. وقفات مع فقه سيدنا عمر .

"زينب دياب" فتاة في مقتبل العمر، تتدفق حيوية وتألقاً، ذلك الألق الذي خلقه جمال الصورة ولمعان العقل.. يحدثنا الأستاذ الكبير نجيب محفوظ عنها في روايته "الكرنك" عن شبابها وإقبالها على الحياة، ويصف لنا وصفاً عميقاً وذكياً الصراع الذي يموج في نفسها، الصراع بين الدهشة الغضة بالفكر الجديد وبين القيم الأصيلة.. لا تملك إلا أن تحب شبابها وتتأمله، لكن زينب تنهار.. وينهار معها كل ذلك "الألق" بعد اعتداء زبانية رجل المخابرات "خالد صفوان"عليها.
حياة الشرفاء
للوهلة الأولى قد يظن القارئ أن السبب في الانهيار هو اغتصابها، وجدير أن يظن-بادي الرأي- أن جريمة كهذه يمكن أن تدمّر فتاة عفيفة، وتقضي على بكارة وجدانها، ونقاوته، لكن الأستاذ نجيب محفوظ يلفت نظرنا من خلال كلمات "زينب" إلى معنى مهم، وهو أن السبب البعيد والأصيل في الدمار الذي حل بنفسيتها هو أنه لم يكن لديها حصانة معرفية تحمي بها نفسها من التردي في ظلمات احتقار الذات، الذي أدى بها إلى السقوط.
تقول زينب: "رفضت التظاهر بحياة الشرفاء وقررت أن أعيش كما ينبغي لامرأة بلا كرامة.. ثم اضطرب تفكيري فضل ضلالاً بعيداً." (رواية الكرنك. نجيب محفوظ. ص70. دار الشروق.مصر).
لقد اضطرب تفكيرها فضل ضلالاً بعيداً.. لم يكن لديها بناء معرفيا يحميها من المشاعر السلبية، واضطراب التفكير.. وهكذا كان حال بعض من دمرهن الاغتصاب، ولم يسهم المجتمع في حمايتهن أولاً من جريمة الاغتصاب، ولم يسهم ثانيا في حمايتهن من تدمير أنفسهن.
إنهن لا يستحققن ذلك.. العقل المنصف يشهد بذلك.. والشرع الحكيم يحميهن من هذه المشاعر ومن اضطراب التفكير، ونجد في فقه سيدنا عمر ما يدل دلالة واضحة على حق الفتاة المغتصبة في حياة كريمة، وحقها في أن يكون أهلها هم أول الناس حماية لها ودعماً.
"فقه الستر" في فقه الفاروق عمر رضي الله عنه تتجلى فيه معاني رحمة الإسلام بالناس، رحمة بمن ارتكبت جريمة الزنا ثم تابت توبة نصوحاً، ورحمة بالمغتصبة المعتدى عليها.. تلك الرحمة الحكيمة التي جاء الإسلام ليجعلها أساساً في حياة الناس وتعاملاتهم.. وقراءة هذه الرحمة تحتاج إلى صبر، وتأمل، وتجديد نية طلب الحق.. والله المستعان.
ما لَك وللخبر؟
قديماً في زمن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. يروي لنا الإمام مالك في الموطأ عن واقعة حصلت في ذلك الزمان : "أن رجلاً خطب إلى رجل أخته فذكر أنها قد كانت أحدثت– قال الإمام الطاهر بن عاشور في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ كتاب النكاح/ جامع النكاح: أي زنت -فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه أو كاد يضربه.. ثم قال: ما لك وللخبر؟".
قال الإمام ابن عبد البر (في الاستذكار /كتاب النكاح / باب جامع النكاح): قد روي هذا المعنى عن عمر من وجوه، ومعناه عندي - والله أعلم - في من تابت وأقلعت عن غيها، فإذا كان ذلك حرم الخبر بالسوء عنها، وحرم رميها بالزنا، ووجب الحد على من قذفها إذا لم يقم البينة عليها.
ثم روى الإمام ابن عبد البر( في الاستذكار/كتاب النكاح/ باب جامع النكاح) بسنده عن الشعبي أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال: إن ابنة لي ولدت في الجاهلية، وأسلمت، فأصابت حدا، وعمدت إلى الشفرة، فذبحت نفسها، فأدركتها، وقد قطعت بعض أوداجها بزاويتها، فبرئت، ثم مسكت، وأقبلت على القرآن، وهي تُخطب، فأخبر من شأنها بالذي كان؟، فقال عمر: أتعمد إلى ستر ستره الله، فتكشفه، لئن بلغني أنك ذكرت شيئاً من أمرها لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها نكاح العفيفة المسلمة.
القضية التي وقف فيها سيدنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- هذا الموقف القوي الذي يرقى إلى العقوبة أو التهديد بها في حق من يفضح ستر من زنت ثم تابت إذا ما خطبها خاطب، هي قضية تلتبس على العقول، وتتداخل فيها الحقوق ظاهراً، فهناك حق الستر لمن تابت، وهناك حق الخاطب في أن لا يخدع بالزواج ممن يظنها لم يمسها غيره، لكن الملهم سيدنا عمر –رضي الله عنه- يجعل الستر حقا لا يعارضه حق غيره، بل ويسقط ما قد يُتوهم من حق للخاطب في إعلامه بحال مخطوبته قبل توبتها.
الستر والعدل
ويشرح لنا الإمام الطاهر ابن عاشور ذلك في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ كتاب النكاح/ جامع النكاح- فيقول: "ووجه الفقه في ذلك كله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بستر المسلم فيما زل فيه من المعاصي فقال في الحديث الصحيح: "من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة".. فحَصُل العلم بأن من مقاصد الشريعة الستر في المعاصي ما لم يخش ضر على الأمة، لأن في الستر مصالح كثيرة، منها: إبعاد المقترف عن استخفاف الناس به وكراهيتهم له، ومنها أن من حصلت منه المعصية على وجه الفلتة إذا ستر أمره بقي له وقاية من مروءته فلعله لا يعاود تلك المعصية فإذا افتضح زال ذلك الاتقاء، فقال: أنا الغريق فما خوفي من البلل، فلأجل ذلك كله وغيره أدّب عمر –رضي الله عنه- من شهر بأخته، لأن تلك المقاصد التي ذكرناها هي أقوى وآكد في جانب الأقارب بله الأخوة، وليس هنالك ما يعارض، إذ لا منفعة للخاطب في إعلامه بما أحدثته مخطوبته، فإنه ذنب مضى، وليس هو عيبا في الخلقة يجب الإعلام به لتجنب الغرور بالخاطب، كعيوب الأبدان والأخلاق من مرض أو جنون أو حماقة قوية تمنع حسن المعاشرة، على أن الإخبار بمثل ذلك يوجب انكفاف الرجال عن تزوج المرأة، ولذلك قال له عمر: "مالك وللخبر"، يعني لا داعي إلى ذلك الخبر ولا فائدة، فإن الاستفهام في قوله "مالك" استفهام إنكاري هو في معنى النفي، أي : ليس لك مع هذا الخبر اتصال واختصاص". اهـ النقل مختصراً.
فالإسلام يؤكد على أن العفة منبعها طهر القلب، واستقامة السلوك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "التائب عن الذنب كمن لا ذنب له" ( سنن ابن ماجه/ كتاب الزهد / باب ذكر التوبة)، قال ابن حجر الهيتمي في مجمع الزوائد : "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم. قلت: وقد تقدمت أحاديث في باب "الإسلام يجب ما كان قبله" في كتاب الإيمان. ونقله الإمام ابن عبد البر في الاستذكار في كتاب النكاح/ باب جامع النكاح.
وإذا كان الخاطب إذا زنا ثم تاب، فليس غشاً ولا خداعاً أن يستر على نفسه، وأن لا يفضحها أمام من يخطب عندهم، بل يحرم عليه أن يفضح نفسه، والستر واجب عليه، فكذلك المرأة إذا تابت، واستقامت ليس لها أن تفضح نفسها، وليس لأهلها أن يهتكوا ستر الله عليها. يروي الإمام ابن عبد البر (في الاستذكار / كتاب النكاح/ باب جامع النكاح ) أن رجلا أراد أن يزوج ابنته، فقالت: إني أخشى أن أفضحك، إني قد بغيت. فأتى عمر، فذكر ذلك له، فقال: أليست قد تابت؟ قال: نعم، قال: فزوجها.
ونجد في فروع الفقه المالكي مزيد تفصيل في هذه المسألة، فيذكر المالكية أن من زالت عذريتها بزنا لم يتكرر منها هي في حكم البكر، وكذلك من اغتصبت، وينصون  أن من لم يتكرر منها الزنا لم يرتفع حياؤها، فتعامل معاملة الفتاة البكر في أن أباها له أن يجبرها على الزواج.
والأمر ليس من جهة القهر للمرأة كما قد يتبادر، لكن هم ينظرون لهذه المسألة في ضوء الوضع الاجتماعي الذي كانوا يعيشونه، وفي هذا الوضع تستحي الفتاة البكر من إبداء الموافقة على الزواج، وقد تصرّح بالرفض وهي راغبة، فنظراً لهذه الطبيعة النفسية الخاصة للبكر في ذلك المجتمع، ذهب المالكية إلى أن والد الفتاة البكر له أن يجبرها على الزواج الذي تمتنع عن قبوله حياء، ومن هنا كان تعبيرهم الفقهي: أن علة إجبار البكر هي الحياء.
وأن التي زنت ولم يتكرر ذلك منها في حكم البكر لأنها لم يرتفع حياؤها. ( التاج والإكليل / كتاب النكاح/ ج3/ ص 327/ الناشر: دار الفكر. وهذا هو مشهور مذهب المالكية كما نقل الشيخ البناني في حاشيته على مختصر خليل/ مج3-4/ج3/ص172. دار النشر: دار الفكر).
يبدو هذا الكلام عجيبا في عصر كعصرنا، فالغالب أن الفتيات – في عصرنا- لا يمتنعن عن قبول الخاطب حياء من أن يفهم أنهن راغبات في الزواج، لكن فلنحلل عزيزي القارىء كلام المالكية في ضوء تكييفهم للمسألة.
ينظر المالكية إلى الفتاة التي وقعت في الزنا ولم يتكرر هذا الفعل منها نظرة تستوقف المرء حقاً، فهم لا يجعلون سقوطها هذا رغم شناعته سبباً للحكم عليها بارتفاع الحياء عنها، فالسقوط لمرة لا يعني أنها صارت في حكم الفاجرات اللاتي لا حياء عندهن، وهذه النظرة تجعلنا نتأمل في العدل الفقهي الذي نتج عنه هذا الحكم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة8، وهي نظرة تتسق مع ما يؤكد عليه الإسلام من أن الذنب ينبغي أن لا يكبل المرء، وأن التوبة باب مفتوح في كل لحظة، ليبدأ المسلم من جديد مع رب يقبل عليه بفرح، ويعده بالعون والتأييد إن أخلص الإنابة.
عزة التوبة.. تصحيح معرفي
وأجدني أتأمل كيف أن نشر هذه الثقافة، وتأصيلها في نفوس الناس، سيحمي كثيرات ممن اغتصبن أو زللن من كراهية الذات التي قد تقودهن إلى ظلمة العزلة أو التردي في مهاوي الفساد والعياذ بالله.
هي ثقافة تكسب المرء قوة نفسية، واعتزاز بالله عز وجل فالله هو العزيز، وهو يريد للمسلم العزة، واحترام الذات، ويمنعه من أن يدخل بينه وبين ربه العزيز نفس أمارة بالسوء والكراهية والاحتقار، أو بشر ليس من حقه أن يطلع على ذنب خفي مهما كان قربه من صاحب الذنب، فالله وحده هو القريب حقاً، العزيز حقاً، يغار على عبده المؤمن، وليس للمؤمن أن يهتك ستراً ستره الله عليه.
وفي ضوء النصوص القرآنية والنبوية العامة التي تحث على الستر، وتأمر به، وفي ضوء فقه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والتحليل النفسي والاجتماعي لهذا الفقه، جاءت الفتاوى المجيزة لعملية إعادة الغشاء في حق من زنت فتابت وحسنت توبتها.
ففي فتوى لفضيلة الدكتور علي جمعة محمد بشأن حكم عملية إعادة غشاء البكارة (الفتوى بتاريخ 28/12/2003 موقع دار الإفتاء المصرية/ فتاوى فضيلة المفتي/ الطب والتداوي) يقول فضيلته بعد أن أكد على الحض على العفاف وتحريم الزنا، وذكر أن الأصل في الشريعة هو الستر على الأعراض وأيد قوله بالنصوص الشرعية: "لقد نص السادة الأحناف أن العذرة لو زالت بزنا خفي وهو الذي لم يصل إلى الحاكم فلم يقم عليها الحد، ولم تشتغل به حتى صار الزنا لها عادة، أنها بكر حكماً، وإن لم تكن بكرا حقيقة، وتُزوج كالأبكار، حتى إنها لا تُستَنطق، إنزالاً لها منزلة البكر التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :" البكر تستأذن وإذنها صمتها"، وعلل الحنفية ذلك بقولهم: وفي استنطاقها إظهار لفاحشتها، وقد ندب الشارع الستر. ( مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر/ كتاب النكاح / باب الأولياء والأكفاء)، ثم قال فضيلته: "... ومما سبق فيجوز لها رتق ذلك الغشاء بالطب درءاً للمفسدة التي تترتب ولو في المآل على عدم ذلك الرتق، ويجوز للطبيب فعل ذلك ولو بالأجر، أما إذا اشتهرت بالزنا والعياذ بالله، أو حدت فيه فلا يجوز ذلك لانتفاء العلة." اهـ كلام فضيلته .
وسئل فضيلة الدكتور البوطي: "أليس الإفتاء برتق غشاء البكارة واحداً من الأسباب التي تهوّن الوقوع في الخطأ؟" فأجاب فضيلته: "أرأيت لو أن فتاة مستقيمة خطبت إلى شاب مثلها، وكانت قد انزلقت يوماً ما إلى ارتكاب فاحشة، ثم تابت إلى الله توبة نصوحا، أفيجب عليها أن تكشف سترها لهذا الشاب.. الجواب أنه كما لا يجب على الشاب أن يتحدث عن انحرافاته الماضية التي تاب عنها، فكذلك الفتاة لا يجب عليها ذلك، لأن معصية الرجل والمرأة في ميزان الله تعالى سواء.
فإذا كان هذا واضحاً، فإن ترميم الفتاة التائبة بصدق بكارتها سترا لنفسها، داخل في الحكم ذاته، هذا بقطع النظر عن أن هذا الترميم فيه عون كبير على استقامتها، في حين أن منعها من ذلك وإلجائها إلى طريق الفضيحة، من أخطر أسباب الانحراف إلى الرذيلة والموبقات." اهـ باختصار يسير.( مع الناس مشورات وفتاوى . د. محمد سعيد رمضان البوطي. ص 134).
آلام المغتصبة أشد
وإذا كان الشرع – في فقه سيدنا عمر رضي الله عنه- قد ألغى ما قد يتوهم من غش الخاطب فيما إذا لم يُخبر بأن من يخطبها قد سبق لها أن زنت، ويعد هذا الذنب هو أمر خاص بالفتاة متى تابت عنه، واستقامت، فقد يقال إن من اغتصبت فزالت بكارتها هي أولى بأن تستر على نفسها، فهي ضحية ومعتدى عليها، لكن ماذا عن الأثر النفسي الذي يتركه الاغتصاب في نفس المغتصبة، والذي يؤثر على قدرتها على القيام بحق الزوج الخاص؟، هل يجعل من الواجب عليها أن تخبر الخاطب بما حصل لها ليعينها على تجاوزه نفسياً؟.
لست من أهل الإفتاء إنما أطرح المسألة للمناقشة لا التقرير، هذا الأثر النفسي هل يمكن معالجته بسرية تامة، وبدون حاجة إلى معونة الزوج؟، هذا ما ينبغي أن يجيب عنه الأطباء، فإذا كان ذلك ممكناً فينبغي أن يكون القول بالستر واجباً، لكن إذا لم يكن من الممكن معالجته، فما هو الحكم؟، وهل يقال إن الزوجة ليس لها أن تخبر الزوج بما جرى لها، ويعالج الأمر على أنه عرض نفسي طارىء، لكن لماذا نحمّل الزوج العبء النفسي والمادي لعلاج الزوجة، أليس هذا ضرر يلحق به لا ذنب له فيه؟.
اجتهادات مغايرة
لقد اقتصرت في  السطور السابقة على طرح المسألة من حيث اتصالها بفقه سيدنا عمر- رضي الله عنه-، وإلا فإن لبعض المعاصرين أقوالاً واجتهادات بعضها يختلف مع فقه سيدنا عمر –رضي الله عنه-  في التأصيل ويتفق في النتيجة، وبعضها يختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل والنتيجة.
من القسم الأول: أي من الفتاوى التي تختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل وتتفق في النتيجة الفتوى التي صدرت عن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الـ 18 من 9 إلى 14 تموز 2007م، ونصها: «يجوز رتق غشاء البكارة الذي تمزق بسبب حادث أو اغتصاب أو إكراه، ولا يجوز شرعاً رتق الغشاء المتمزق بسبب الفاحشة، سدا لذريعة الفساد والتدليس، ويستثنى من هذا الحكم ما إذا غلب على الظن أن عدم الرتق يؤدي إلى مفسدة عظمى، فإنه يجوز إجراء عملية الترقيع، كما هو الحال في أعرافنا، فإن الفتاة إذا اكتشف ليلة زفافها أنها فاقدة للعذرية تطلق، وفي طلاقها مفسدة لها وعار لأهلها، وقد يؤدي الأمر إلى قتلها من قبل ذويها، وفي حال وجود مفسدتين ترتكب الأخف دفعا للعظمى. ( جريدة عكاظ / 29 أكتوبر 2009) .
وتتفق فتوى الدكتور سلمان العودة مع فتوى مجمع الفقه الإسلامي في إجازة مثل هذه العملية درءا لمفسدة ما يسمى جرائم الشرف، وهي مفسدة عظيمة، يقول: «عملية ترميم غشاء البكارة فيها خلاف بين الفقهاء، والذي أميل إليه أنه إذا وجدت التوبة عند الفتاة، فإنه يجوز لها أن تفعل ذلك حفاظاً على نفسها، وعلى حياتها، وعلى مستقبلها؛ لأنه من النساء من تقتل، وأنا أعرف منظمة عالمية ذكرت أن خمسة آلاف امرأة تقتل سنويا بسبب هذا الأمر، أو ما يسمى بجرائم الشرف". (موقع الإسلام اليوم http://islamtoday.net/salman/artshow-78-121971.htm)
ومن القسم الثاني: أي من الفتاوى التي تختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل والنتيجة: ما ذهب إليه أ. د حسين حامد حسان رئيس مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عضو المجامع الفقهية من منع مثل هذه العملية، قال: إن فتح الباب في هذه العمليات يؤدي إلى فساد عظيم بل إنها تجر إلى مفاسد أكبر من منفعة الستر، ومن ذلك الغش والتدليس على الزوج، مشيراً إلى ضرورة أن يبين ولي الأمر للخاطب ما حصل لابنته في حال إجراء عملية الترقيع، وأضاف: ولقد سبق وصادفتني عدة حالات لفتيات أخفين على خطبائهن حقيقة بكارتهن فاكتشف الزوج ذلك فحدث الطلاق وتبعت ذلك آثار سلبية عظمى.
وعلل فضيلته سبب رفضه لتلك العمليات لأنه لا يبرر الستر على الجريمة بارتكاب جريمة أخرى فسد الذرائع ومنع المفاسد مقدم على كل ما سواه، وأضاف: أعتقد أن مثل هذه الفتاوى تقلل من قيمة العفاف والطهر رغم قيمتهما الكبيرة ( جريدة عكاظ /29 أكتوبر 2009).اهـ النقل باختصار.
وكلام فضيلته قد سبقت مناقشته في ثنايا المقال، فالكلام على الغش والتدليس على الزوج تعارضه النصوص التي تأمر بالستر، وتجعل الذنب أمراً خاصاً بين العبد وربه، ليس من حق أقرب الناس الاطلاع عليه، والكلام على أن هذا الباب يجر الفساد، ويقلل من أهمية العفاف والستر يرده أن قفل هذا الباب يشجع على الإعراض عن التوبة، ويحرم من أرادت الاستقامة من بداية جديدة في حياتها طاهرة، عزيزة، بستر الله ومغفرته وتوبته.
لقد جعل الإسلام مساحة كبيرة للفرد المسلم للإصلاح، وبنى أحكامه على التعامل مع المسلم تعاملاً يؤكد على احترام المسؤولية الفردية، ويشدد على ثقافة الستر، ويعزز ثقة المسلم بنفسه، وبقدرته على أن يكون فردا صالحا مهما ارتكب من خطايا، وسد الباب أمام ذلك هو مجافاة لروح الإسلام، وميزة عظمى من مزاياه كما أفهم. والله أعلم.